الثابت الوحيد في الخطّة الأميركية ضد «داعش» هو عدم وجود أي خطّة. واضح أن العراق وسورية هما حقل تجارب لمغامرة عسكرية مفتوحة على كل الاحتمالات.
انعدام الخطط يدفع خصوم النظام السوري للاعتقاد بأن ضرب هذا النظام وارد. لكن انعدام الخطط نفسه يدفع حلفاء النظام الى يقين بأن أميركا ستضطر، عاجلاً أم آجلاً، الى التنسيق العلني والتفاهم مع الرئيس بشار الأسد.
الفوضى الأميركية تجعل الاحتمالين قائمين، لكن ثمة احتمالاً ثالثاً قد يكون مرجَّحاً أيضاً، وهو استمرار الحرب السورية طويلاً كثمن في صراع الأمم المستعر اليوم أكثر من أي وقت مضى.
في هذا الصراع، تبرز الآن حالتا أوكرانيا وهونغ كونغ. يراد لهما ردع روسيا والصين. بهذا المعنى صارت الساحات العربية وقوداً لنار دولية.
ما الذي جرى لكي ينتفض أوباما ضد «داعش» ويجدّد الحملات العسكرية التي وعد بأنه لن يجددها؟
لن نجد الجواب في «داعش» والقلق من الارهاب فقط. سنجده في القلق الاميركي من الصين وروسيا.
الاقتصاد الصيني سيتفوّق على نظيره الأميركي. برنامج المقارنات الدولية الذي يستضيفه البنك الدولي أكد هذه الخلاصة الكارثية لأوباما وبلاده. الصين تتمدّد في الساحات المرصودة تاريخياً للغرب الاطلسي. لا بل في الاطلسي نفسه. فقد بلغ، مثلاً، حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الاتحاد الاوروبي، في النصف الاول من العام الجاري فقط، 291 مليار دولار، بزيادة نسبتها 12 في المئة.
المارد الصيني سيصبح في العام المقبل أكبر مستورد لنفط الخليج. أدركت السعودية ذلك فقلقت من تعاظم التعاون الصيني ـ الايراني. رفعت تبادلها التجاري مع بكين الى 73 مليار دولار لتصبح اكبر شريك تجاري للصين في منطقة غرب آسيا وشمال افريقيا.
خطورة المارد الصيني لا تنحصر بالتمدّد، وانما بأسلوب هذا التمدّد. نجح القادة الصينيون في تجنب أي خطاب استعماري. ساهموا في انعاش البنى التحتية في الدول الفقيرة. أقاموا مشاريع وطرقات ومدارس ومستشفيات وغيرها. باختصار، هم يغرون الدول التي يدخلونها بنعومة لافتة.
ثم ان الصين لم تجعل مصالحها الاقتصادية تؤثر على قرارها السياسي. لم تمنعها، مثلاً، العقود الضخمة مع السعودية، من استخدام الفيتو ثلاث مرات مع روسيا لصالح سورية. لا شك أن بكين اقل اهتماماً بسورية من الشريك الروسي، لكن سورية صارت بالنسبة إليها، تماماً كما هي بالنسبة لبوتين، جزءاً من صراع عالمي ومن سعي لتصحيح الخلل الدولي.
أكثر من يقلق أميركا هي الصين. فكيف اذا صار هذا المارد الآسيوي جزءاً من منظومة دولية تريد عالماً متعدّد الاقطاب يحدّ من أحادية الهيمنة الاميركية؟
تصدّرت الصين وروسيا دول منظومة الـ «بريكس» التي تضمهما مع البرازيل والهند وجنوبي افريقيا. المنظومة تضم 40 في المئة من سكان المعمورة، وربع مساحة اليابسة، وهي بخيراتها واقتصادها ستصبح في العقود المقبلة أخطر منافس عالمي باعتراف مجموعة «غولدمان ساكس».
قررت منظومة الـ «بريكس» تأسيس بنك للتنمية بقيمة 100 مليار دولار، واحتياطي يصل الى 100 مليار اضافية. سرت تلميحات كثيرة بأن هذا البنك سيكون بديلاً عن البنك الدولي وأكثر انسانية. جرى حديث عن عملة عالمية جديدة تنافس الدولار واليورو. شرَّعت الصين التعامل بعملتها الوطنية دولياً. كبر القلق الاميركي.
كان اوباما يراقب الـ «بريكس» من مكتبه البيضاوي حين رأى صور الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني متوسطاً رئيسي الصين وروسيا في قمة «منظمة شنغهاي» التي تضم نصف سكان العالم.
وسط هذا التنافس الدولي، استعرت الحرب في سورية. أراد الغرب الاطلسي تشويه صورة بوتين فتمدّد الاخير صوب مصر والعراق والجزائر وغيرها.
لم يجد اوباما بداً من العودة سريعاً الى العراق. «داعش» ذريعة ممتازة لجذب تعاطف الرأي العام عنده وفي العالم، وابتزاز الخليج. أسّس التحالف الدولي. سارعت روسيا والصين لانتقاد عدم احترامه للشرعية الدولية. ذكّرت موسكو باختراقات كارثية مماثلة حصلت في العراق ويوغوسلافيا وليبيا. كثّفت وزارة الدفاع الروسية علاقتها ومساعداتها لدمشق. وفجأة حصلت سابقة صينية عسكرية كبيرة. وصلت مدمّرتان صينيتان الى ميناء بندر عباس في ايران.
لو اضفنا الى ذلك الخيرات الهائلة لبحر قزوين بالنسبة لروسيا وايران وغيرهما، والحضور الروسي اللافت في الاكتشافات الغازية الضخمة عند سواحل المتوسط، يمكن القول ان اوباما في وضع لا يحسد عليه، ولذلك فإن فشله في خطته (او في انعدام خطته) ضد «داعش» لا يهدّد مصيره الشخصي فقط، بل لعله يهدد كامل الدور الاميركي في المنطقة.
من هنا يمكن للمرء ان ينتظر معركة شرسة قد تطول أكثر مما نتوقع خصوصاً في سورية والعراق وربما لبنان والاردن. كيف لا واسرائيل ايضاً ترى ان الفرصة سانحة لاعادة خلط الاوراق ضد ايران وحزب الله.
في التاريخ، قال لينين «ان من يضيِّع اوكرانيا كمن ضيَّع رأسه». ولعل واقع حال بوتين اليوم: «ان من يخسر سورية قد يخسر رأس حربة في الصراع الدولي».