يجب ألا يفاجئنا الخبر الذي نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية نقلاً عن سفير جورجيا في واشنطن أرتشيلا غيغيشدزه، والذي أشار إلى استعداد بلاده لاستضافة معسكرات تدريب لـ«المعارضة السورية»، في إطار ما أسماه عملية مكافحة الإرهاب الدولية ضدّ «الدولة الإسلامية» بحسب زعمه… ولن ينفع قول السفير الجورجي نفسه لاحقاً إنّ مراسل المجلة الأميركية أساء تفسير تصريحه، وإنّ حكومة بلاده سوف تدرس الموضوع بشكل مسؤول، وهو لا يعني أبداً تأكيد أيّة معلومة من هذا النوع… ولكن التدقيق في ما نُسب إلى السفير الجورجي يظهر أنه قال: «إنّ التدريب الذي سيجرى على أراضي جورجيا ليس فقط للسوريين، بل أيضاً لمواطني البلدان الأخرى، فهذا مركز لمكافحة الإرهاب ولتدريب المواطنين من أي جنسية. وهنا لا بدّ من فهم حقيقة دور جورجيا ضمن إطار الاستراتيجية الأميركية في مناطق القوقاز والشرق الأوسط، لنتمكن من معرفة خلفية اختيارها كمكان لتدريب مرتزقة ما يُسمّى «المعارضة السورية المعتدلة»!
يشير الباحث الروسي أندريه أريشيف في كتاب «قتل الديمقراطية: عمليات الـ سي اي ايه والبنتاغون في مرحلة ما بعد السوفيات»، والذي صدر في موسكو بداية عام 2014، إلى أنّ قصة جورجيا بدأت منذ تسعينات القرن الماضي عندما اعتمدت واشنطن مشروع قانون باسم استراتيجية طريق الحرير كبداية المرحلة الحديثة للسياسة الأميركية في ما وراء القوقاز وبشكل خاص في جورجيا.
تعزز هذا التوجه مع ما عُرف بالثورة الوردية التي أتت برجل واشنطن ميخائيل سكاشفيللي أواخر عام 2003، والذي كان من أوائل مهماته إزالة الوجود الروسي والابتعاد من موسكو ووضع موارد الاتصالات والسياسة الخارجية والاستراتيجية العسكرية الأساسية للدولة تحت رقابة الولايات المتحدة مع خصخصة ما تبقى من ممتلكات الدولة وإعادة توزيعها على النخب الجديدة.
إضافة إلى ذلك ومنذ تسعينات القرن الماضي، دخلت أهمّ الشركات العسكرية الأميركية الخاصة إلى جورجيا واستوطنت هناك لتقود عمليات الـ»سي أي أيه» والبنتاغون ضدّ الأهداف المعادية لأميركا وكانت مهمة هذه الشركات تدريب المرتزقة على أعمال التفخيخ، والتفجير والتخريب وتنفيذ عمليات الاستطلاع وغيرها من الأعمال لزيادة الفوضى في المناطق المحاذية لشمال القوقاز التي تمسّ الأمن القومي الروسي مباشرة.
ويؤكد الباحث الروسي أريشيف أنّ ظهور المدرّبين الأميركيين الأوائل كان في جيش جوهر دوداييف منذ عام 1990، وارتدى شامل باساييف مع عصابته البزة الأميركية، وتسلّم مناظير ليلية وهواتف فضائية، كما كان لممرّ الترانزيت التركي- الجورجي دور مهم للغاية للمحافظة على اتصالات منتظمة بين الولايات المتحدة والشركاء القوقازيين.
عام 2009 وقّعت الولايات المتحدة وجورجيا ما سُمّي بميثاق التعاون المشترك، وهي وثيقة إطار تشرعن الوجود الأميركي في جورجيا، واستخدام البنية التحتية العسكرية، ومراقبة أحداث الربيع العربي ليتم التركيز من خلالها على حروب الجيل الجديد ضدّ روسيا وحلفائها في المنطقة سورية .
وفي كانون الثاني 2009 عُقد في تبليسي عاصمة جورجيا اجتماع مغلق مع ممثلي مجموعات عديدة من «الجهاديين» من مختلف الدول الإسلامية والأوروبية بهدف تنسيق نشاطاتها على الجبهة الجنوبية لروسيا، وحصل على دعم السلطات الجورجية حيث كان سفير جورجيا في الكويت مسؤولاً عن وصول المشاركين من منطقة الشرق الأوسط، وفي الأول من نيسان 2009 كشف أحد المحققين الجورجيين خلال تقديمه تقريراً سنوياً عن حالة حقوق الإنسان عن وجود معسكر لتدريب مقاتلين شيشان داخل الأراضي الجورجية بهدف تنفيذ عمليات في شمال القوقاز الروسي.
إنّ عملية تحليل للدور الذي قامت وتقوم به جورجيا ضمن إطار الاستراتيجية الأميركية في مناطق القوقاز والشرق الأوسط والدور التركي المفضوح في عملية تمرير المرتزقة إلى سورية، تؤكد بوضوح لماذا اختيرت جورجيا كمكان لتدريب ما يُسمّى «المعارضة السورية المعتدلة».
إنّ الأهداف الخفية لهذا المشروع الكبير كشفها سفير جورجيا في واشنطن حينما أشار إلى أنّ الهدف ليس تدريب السوريين فقط، إنما أيضاً مقاتلين من جنسيات أخرى، وهو ما يؤكد أنّ الهدف هو إرسالهم تحت اسم «معارضة معتدلة»، خصوصاً أنّ جنسيات من قاتل في سورية تجاوزت الثمانين جنسية، إضافة إلى احتمالات توجيه جزء من هؤلاء المجرمين واستخدامهم داخل روسيا نفسها.
إنه لمن المخجل أن نرى بعد الآن بعض السوريين الذين رهنوا أنفسهم وقوداً لمشاريع أميركا و«إسرائيل»، ولا أعتقد بأنّ ذلك بعيد منهم، فمن رهن نفسه علناً لمصلحة «الموساد» ليس غريباً عليه أن نجده في معسكرات في جورجيا كرمى لعيون واشنطن وتل أبيب.