عمل العدو «الإسرائيلي» طيلة الأشهر الماضية على الترويج لفكرة انشغال المقاومة في حربها الدفاعية واستغراقها في إجراءاتها الاستباقية الوقائية على الحدود مع سورية، بشكل يحجب طبيعتها الأصلية المتمثلة بأنه مقاومة ضد «إسرائيل»، وقد ساهمت قوى لبنانية في مساعدة العدو في إعلامه التضليلي، وتناغم كثير من الأبواق في الداخل مع ما أرادته «إسرائيل» إلى حد القول بأنه لم يعد في لبنان مقاومة، وأن هناك مليشيات فقط. وتجرأ بعض من هؤلاء المشهود لهم بالعمالة لـ«إسرائيل» ولأجهزة الاستخبارات الغربية بخاصة الأميركية والفرنسية وبكل وقاحة على وصف المقاومة بأنها تنظيم إرهابي يشبه «داعش» و»النصرة».
وفي المقابل، صمتت المقاومة وإعلامها، ولم تشأ الدخول في سجال مع الداخل في أمر تعرف أن الناطقين بالاتهام فيه لا يملكون قرارهم، وإن هم إلا حفنة من المرتزقة المأجورين الذين تشغلهم أجهزة الاستخبارات الغربية والصهيونية لتحقيق مآربها في لبنان عموماً وضد المقاومة خصوصاً، أما الرد على «إسرائيل» وتصوراتها وظنونها، فقد رأته المقاومة من الطبيعة التي تفهمها «إسرائيل» وأنه لا يكون كلاماً وسجالاً في الإعلام، بل يكون نزالاً في الميدان تكفي فيه رصاصة تصيب جندياً «إسرائيلياً» أو «نسفية» تنفجر بآلية عسكرية، تكفي لانهيار هيكل الأوهام والتخرصات كلها. فالمقاومة الإسلامية في لبنان انتهجت منذ البدء في مواجهة العدو استراتيجية «العمل المتبوع بالقول إن لزم»، ولم ولن تعتمد مطلقاً أسلوب القول قبل العمل أو من دون عمل لا يأتي لاحقاً أو لا يحصل. فالمقاومة في لبنان هي مقاومة فعل مؤثر يتبعه قول يضيء على الإنجاز.
وبهذا المنطق نفذت المقاومة الإسلامية بتاريخ 7 تشرين الأول 2014 عملية التفجير المزدوج في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، ضد جيش العدو الصهيوني في تلة السدانة، نفذت العملية في المكان ذاته الذي كانت قد أسرت فيه جنوداً «إسرائيليين» لتتخذهم جسراً يعبر عليه الأسرى اللبنانيون لدى العدو في طريقهم من السجن إلى الحرية وميدان الجهاد. نفذت العملية في المكان ذاته الذي أطلق منه العدو «الإسرائيلي» قبل 48 ساعة طلقات نارية أصابت جندياً لبنانياً من المرابطين عند سفوح تلال العرقوب في مواجهة العدو المحتل لمزارع شبعا. أما المجموعة المنفذة فقد حملت اسم الشهيد الذي قضى بمفخخة «إسرائيلية» زرعت للتنصّت على شبكة اتصالات المقاومة، تلك الشبكة التي شاء يوماً فريق أميركا في السلطة الإجهاز عليها بقرار من مجلس وزراء، وبالتالي فإن جملة هذه الجزئيات التي تتصل بتنفيذ عملية المقاومة، تتجمع لترسم الصورة أو لتؤكد الخط البياني الذي تعتمده المقاومة والموضح لاستراتيجيتها القائمة على فكرة المواجهة والرد بالمثل، وأن أي عدوان أو احتلال لا يمكن أن ينال منه التقادم ومرور الزمن، بل إن الرد سيأتي دائماً بالحجم والمكان والزمان الذي تفرضه مقتضيات العمل المقاوم، وفي تثبيت مؤكد لمعادلة توازن الردع التي أرستها المقاومة في وجه «إسرائيل»، وبالتالي تأكيد جديد أن لا عدوان يمر من دون ردّ أمرّ.
لقد حصدت المقاومة ولبنان من عملية مزارع شبعا الأخيرة التي فاجأت البعض، والتي جاءت بمثابة الصاعقة التي نزلت على بعض آخر فأحرقت كثيراً من تخرصاتهم وأوهامهم، وأثلجت صدور جمهور المقاومة، حصد لبنان من العملية كثيراً من المكاسب المرتدة إيجاباً على أمنه واستقراره خصوصاً أن هذه العملية جاءت في ظرف وصيغة تعددت أبعادها، بحيث يمكن في ذلك ذكر ما يلي:
1. البعد الاستراتيجي. أسهب أعداء المقاومة في الداخل والخارج في القول بأن حزب الله فقد هويته كمقاومة، وأن «إسرائيل» لم تعد في الحقيقة ضمن لائحة أهدافه لأنه غيّر وجهة البندقية إلى مكان آخر. وتعمّدوا أن يسقطوا التمييز بين عمل حزب الله في الدفاع عن بندقيته لإبقائها جاهزة في وجه «إسرائيل» لاستمرار المقاومة، وبين ما تشتهيه «إسرائيل» من تغيير المقاومة لوجهة بندقيتها والانصراف عن قتالها. وجاءت هذه العملية لتؤكد أن هوية حزب الله ثابتة لا تتغير، وهو تنظيم مقاوم لإنقاذ ما اغتُصب من حقوق الأمة. وما قتاله في جبهات أخرى إلا دفاع عن بندقية المقاومة وحفظها، لا سيما أن الإرهابيين التكفيريين هم أدوات «إسرائيل» للنيل من هذه البندقية. وهنا نثني على قول أحد السياسيين اللبنانيين في توصيفه لحال حزب الله في الميدان كونه «يمتلك عيناً في سورية وعيناً في مزارع شبعا»، أي أن السياسي العريق فهم جيداً أن حزب الله لم يغادر مقاومته، ما يؤكد أن العملية حققت هدفها الاستراتيجي بكل تأكيد.
2. البعد العملاني. من الواضح أن العملية نفذت في الفترة الزمنية ذاتها وعلى بعد 48 ساعة من المعركة الدفاعية القاسية التي خاضها حزب الله في مواجهة الإرهابيين التكفيريين الذين اندفعوا من عسال الورد ومحيطها في سورية باتجاه بريتال وجرودها في لبنان، بغية قطع طريق زحلة بعلبك وعزل البقاع الشمالي عن لبنان. وفي هذا العمل المزدوج المتزامن دلالة قاطعة على قدرة حزب الله على العمل على أكثر من جبهة وتحت أكثر من عنوان دفاعي. ومن جهة ثانية، تأكيد قاطع أن انشغال حزب الله في معاركه الدفاعية بوجه الإرهابيين التكفيريين أدوات المشروع الصهيوأميركي، لا يؤثر بالعمق في عمله في مقاومة «إسرائيل» والرد على عدوانها، فلكل جبهة وميدان رجال، وتسعير جبهة ما لا يؤثر في القدرات في الجبهة الأخرى، وهوية حزب الله المقاوم لا تتأثر بقول هنا وافتراء هناك، وما أعده لـ«إسرائيل» من نار لا يحد منه ما يستعمله بوجه الإرهابيين من وسائل.
3. البعد الوطني. تراهن «إسرائيل» على طمس احتلالها لمزارع شبعا وتضييع الحق اللبناني بتحريرها وخصوصاً أنها ترتاح للإهمال الذي تبديه الأمم المتحدة في تطبيق القرار 1701 الذي كلف أمينها العام بإيجاد آلية مناسبة لحل قضية مزارع شبعا وتحريرها. وجاءت هذه العملية لتجهض أحلام «إسرائيل» في طمس القضية، ولتؤكد أن للبنان أرضاً محتلة يجب تحريرها وأن المقاومة حق وواجب لبناني ينبغي القيام به من أجل التحرير. وشكلت العملية رداً يخرس أتباع المشروع الصهيوأميركي في الداخل اللبناني الذي تغيب عن أدبياتهم السياسية مسألة الاحتلال والتحرير ولا يرون مجالاً للبحث إلا الحديث عن سلاح المقاومة ووجوب نزعه خدمة لـ«إسرائيل».
4. البعد الإقليمي. وهنا نجد الربط بين العملية وما يتم الحديث عنه من مخطط إرهابي يستهدف لبنان على محاور ثلاثة، شمالي انطلاقاً من القلمون باتجاه عرسال فطرابلس، وأوسط انطلاقاً من عسال الورد باتجاه بريتال فزحلة فالساحل، وجنوبي انطلاقاً من الجولان باتجاه شبعا فحاصبيا وصولاً إلى الساحل في إقليم الخروب عبر جزين والشوف. وقد جاءت هذه العملية في مكان مناسب لتوجه رسالة لـ«إسرائيل» وللإرهابيين الذين تحتضنهم بأن المقاومة جاهزة ويقظة لمواجهتهم على هذا المحور كما واجهتهم على المحور الأوسط قبل أيام وقطعت الطريق على آمالهم وأحلامهم تصديقاً لقول الأمين العام لحزب الله: «لن تتمكنوا من الوصول إلى بيروت» وطبيعي أن يقول لن تستطيعوا تطويق الجنوب وعزله عن لبنان