إنتظر العالم طويلاً حصول تقارب إيراني-سعودي، وراهن أكثر من طرف على ذلك كونه يُشكّل مفتاحَ حلِّ لكثير من القضايا العالقة في الدول العربية والمنطقة. لكنّ أيّ تقدّم لم يحصل في السنوات القليلة الماضية، على الرغم من عقد بعض اللقاءات المُتفرّقة بين ممثّلين عن البلدين من دون أن تنجح في إحداث أيّ خرق في جدار التباعد. وخلال الأشهر القليلة الماضية، إزدادت الأمور سوءاً، وأخذ منحى المواجهة بالتوسّع. وبالنسبة إلى ساحات المواجهة بين الطرفين، فهي متعدّدة، ونتائج بعضها لا تزال غامضة، في حين حُسم الوضع مرحلياً في ساحات أخرى.
في البحرين ومنذ أن تدخّلت وحدات من "درع الجزيرة" لوقف إحتجاجات قوى المُعارضة في المنامة مطلع العام 2011، نجحت السعودية في الإبقاء على الحكم الحليف لها هناك، علماً أنّ المعارضين المدعومين من إيران لم ينزلقوا إلى خيار المواجهة المسلّحة الواسعة، وأبقوا إعتراضاتهم ضمن الحركة السلميّة نسبياً، حتى ولو أنّها لم تأت بأي تغيير حتى اليوم.
في اليمن سدّدت إيران في الأسابيع القليلة الماضية ضربة قويّة للسعودية، بعد سيطرة مقاتلي حركة "أنصار الله" بقوّة السلاح على العاصمة صنعاء وعلى مساحات واسعة من البلاد. وإستفاد المقاتلون الحوثيّون(1) من الدعم الإيراني بالسلاح والمال والتدريب العسكري، بينما دفعت السعودية ثمن الخلافات على النفوذ بين الشخصيات المُناهضة للحوثيّين، علماً أنّها ساهمت بنفسها في إضعاف تيّارات سنّية مُسلّحة في اليمن، كونها تدين بالولاء لتنظيم "القاعدة" الإرهابي، علماً أنّ الرياض ترى فيه خطراً على أمنها قبل سواها.
في العراق وبعد سنوات من النفوذ الإيراني بفعل إسقاط الولايات المتحدة الأميركية حُكم الرئيس صدام حسين، ودخول إيران بقوّة على خط الأحزاب الشيعيّة في العراق، تراجع هذا النفوذ بشكل واضح في الأشهر القليلة الماضية، نتيجة تمدّد تنظيم "داعش" الإرهابي على مساحات واسعة من الأراضي العراقية. لكن تضعضع النفوذ الإيراني لم يحمل عودة النفوذ السعودي إلى العراق، على الرغم من دعم الرياض لبعض العشائر بحكم الإمتدادات القبلية، علماً أنّ السعودية كانت تعتبر العراق تاريخياً خط دفاع أمامي بوجه التمدّد الإيراني في المنطقة، ونحو الخليج بالتحديد.
في سوريا وبعد دخول السعودية على خط إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد منذ إندلاع الأزمة السورية في آذار 2011، سارعت إيران إلى دعم النظام السوري بثقلها العسكري والسياسي والمادي، ما أسفر عن إفشال خطط إسقاط الأسد، لكن من دون النجاح في إنهاء الحرب التي أخذت مع الوقت منحى مغايراً للخط البياني الذي إنطلقت فيه. وتحاول الرياض اليوم إستثمار مشاركتها في الحرب على الجماعات الإرهابية في سوريا، لتكون مُنطلقاً لتدخّل أكبر وأعمق في الشأن السوري في المدى المنظور، وفي الحل الذي لا بدّ أن يحين أوانه في المستقبل. وعكست دعوات وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل الأخيرة، إلى سحب القوات الإيرانية "المحتلّة" من سوريا، والرافضة لأن يكون الرئيس الأسد جزءاً من الحلّ، إستمرار تشدّد الموقف السعودي.
في لبنان وعلى الرغم من سيطرة النفوذ الإيراني متمثّلاً بحليفه "حزب الله" على قرار السلم والحرب، وتأثيره الكبير في السياسة العامة اللبنانيّة، فإنّ التعقيدات الطائفية والمذهبية اللبنانيّة، والإنقسام السياسي العمودي بين خطّين رئيسيّين، سمحا للسعودية بإفشال إقصاء حلفائها وفي طليعتهم "تيّار المستقبل" عن السلطة. ولعب إشتداد الصراع بين طهران والرياض دوراً مؤثّراً في تجميد العديد من الملفّات على الساحة اللبنانية، حيث أسفر الكباش المستمر والتعادل السلبي دون التوصّل إلى حلول أو تسويات مرضية لأيّ من الطرفين.
في السعودية صعّدت السلطات الحاكمة حربها الإستباقيّة على المعارضين المدعومين من الخارج، وألقت القبض على عدد كبير من المطلوبين في الأسابيع القليلة الماضية. وبالأمس القريب أصدرت المحكمة الجزائية السعودية في الرياض حُكماً قضى باعدام الشيخ الشيعي المعارض، نمر النمر(2). وقد صدرت مواقف مندّدة بالقرار من جمعيات تدافع عن حقوق الإنسان وعن حرّية التعبير، ومن شخصيات سياسية ودينية، مع بروز مواقف متشدّدة من الخطوة من "حزب الله"، ومن جانب رئيس هيئة أركان العامة للقوات المسلّحة الإيرانية اللواء حسن فيروز آبادي، الذي حذّر من إراقة دم "عالم الدين الشيعي البارز"، وقال مهدّداً: "هذه الدماء ستفور في قلوب عشرات ملايين الشيعة وبين مسلمي العالم، وسيكون ثمنها باهظاً للغاية للسعودية"، آملاً بأن تعيد المحكمة النظر بشكل جذري في هذا الحكم.
وفي الختام، أثبتت الأحداث أنّ الخلاف السعودي-الإيراني المُزمن لا يرتبط بشخصيّة الرئيس السابق لجهاز الإستخبارات العامة السعودي الأمير بندر بن سلطان، أو بشخصيّة قائد فيلق القدس الجنرال الإيراني قاسم سليماني، بل هو خلاف سياسي ومذهبي وعقائدي يتمحور حول نفوذ وسلطة وتأثير كل من الرياض وطهران على دول المنطقة. ويبدو أنّه كلّما تقدّمت العلاقة بين واشنطن وطهران، كلّما تشدّدت الرياض في مواقفها، في محاولة ألاّ تكون الإتفاقات النهائية التي يجري إعدادها للمنطقة على حساب السعودية ونفوذها في الشرق الأوسط. ويبدو أيضاً أنّ طهران المزهوّة بالانتصارات العسكرية المختلفة التي حقّقتها عبر حلفائها، تُحاول حالياً إستغلال الهجمة الغربيّة على "داعش" ومشتقّاته، لتمديد نفوذها الإقليمي أكثر فأكثر. وكل ما سبق يُثبت أنّ إيران والسعودية تتحوّلان من مفتاح منشود لحلّ الكثير من القضايا العالقة في الشرق الأوسط، إلى جهات مسؤولة مباشرة عن قرار الحرب على أكثر من جبهة.
(1) نسبة إلى المؤسّس حسين الحوثي الذي قُتل على يد القوات اليمنية في العام 2004.
(2) أوقف الشيخ نمر النمر في تموز من العام 2012، بتهمة التحريض على إثارة الفتنة المذهبية وإستخدام العنف والتسبّب بإضطرابات في المنطقة الشرقيّة ودعم الإحتجاجات في البحرين وحمل السلاح في وجه رجال الأمن، وغيرها من التهم.