ان مبدأ العدالة في المحاكمات وحماية حقوق جميع المواطنين، يُوجب أن تكون المحاكمات علنية بكافة إجراءاتها سواء لجهة التحقيق أم لجهة إستجواب الخصوم أم لجهة الجلسات والمرافعات. ورغم ان القانون أجاز كسر هذه القاعدة في بعض الحالات فقط، الا انه ابقى على سرية التحقيقات التي ترمي الى حماية الاشخاص الملاحقين او المحكوم عليهم، ولكن التطبيق الفعلي ليس كذلك..
إن التحقيقات الأولية التي يقوم بها الضابط العدلي بهدف جمع المعلومات حول الجريمة تتسم بالسرية، حسبما يشير المحامي انطوان نصر الله في حديث لـ"النشرة"، مضيفا ان المحامي ممنوع من حضور هذه التحقيقات ايضا. ويقول: "القانون اللبناني بشكل عام وخاصة قانون اصول المحاكمات الجزائية حمى المتهم، فكما ان المدعي له بعض الحقوق التي تحميه، كذلك المدعى عليه"، مشيرا الى ان كل اوراق المحاكمات والتحقيقات والادلة قبل ان تصل الى محكمة الاساس تبقى سرية، وفي حال تم تصويرها واستعمالها يفرض القانون عقوبات يتحملها المُسَرِّب والمُسَرَّب اليه قد تصل الى السجن والغرامة، وهذا ما حددته المادة 53 من قانون اصول المحاكمات الجزائية(1).
قد يبدو القانون مثاليا عند النظر اليه، ولكن عند امتحان التطبيق يُكرم القانون او يُهان، وفي لبنان أُشبع هذا القانون اهانة، فلا سريّة التحقيقات مُصانة ولا من يحزنون. ساعات قليلة فقط ينتظرها المواطن اللبناني كي يعرف ما دار في التحقيق مع فلان وأي شخص من الموقوفين البارزين سواء في المجال السياسي او الامني او في مجال الارهاب، فالتسريبات في كل مكان، والاعلام يتسابق على نشر "السكوب" غير القانوني، ولكن من يأبه لذلك، فمخالفة القانون هنا غير مُحاسب عليها، الا اللهم عند الضرورة التي تجعل السلطة القضائية متعلقة بتطبيق القانون ضد احد ما لغاية في نفس يعقوب وليس لحبّ تطبيق القانون نفسه. فمن المسؤول عن تسريب التحقيقات؟.
وهنا، يرى مصدر قضائي ان تسريب التحقيقات برز في لبنان في الآونة الاخيرة مع سطوع نجم التنظيمات الارهابية، فكان التسريب يتم عن قصد في بعض الاحيان لأجل رفع معنويات المواطنين والقوى الامنية على حد سواء. اما نصر الله فلم يكن بعيدا عن هذا الرأي بحيث يعتبر ان لبنان في قلب المعركة مع الارهاب حاليا، وان الاعلام هو احد اشكالها، وبالتالي فإن تسريب بعض التحقيقات عن موقوفين معينين عادة ما يكونون مشتبه بهم في حوادث تفجيرات ارهابية او اعتداءات على الجيش اللبناني، يحمي معنويات الناس، ولذلك نجد ان السلطة القضائية هنا متسامحة الى حد ما.
ومن جهة اخرى فإن التسريب حسب المصدر القضائي يمكن ان يكون لأهداف سياسية، فلا يخفى على احد "المعارك الخفيّة" التي كانت تجري بين فرع المعلومات وقوى سياسية معيّنة، مشيرا الى ان التسريب في هذه الحالات لا يخدم المصلحة العامة بل يؤدي في بعض الاحيان الى تشويه الحقائق ومن غير المستبعد ايضا ان يؤدي الى فتن واشكالات. وقال: "التسريبات لا تحصل من قبل شخص بصفته الفردية بل هي مقصودة من اجهزة امنية، او تيارات سياسية تمون على اجهزة امنية، ولذلك لا يمكن ان يتحمل موظف بسيط مسؤوليتها".
القانون اللبناني يعاقب المُسَرِّب والمُسَرَّب اليه (اي من ينشر التسريبات)، ولكن وان كان على الاعلام ان يتحلى بروح المسؤولية ويمتنع عن نشر ما قد يوتّر الجو العام، الا انه غير مسؤول عن التسريبات التي تحصل خلال التحقيقات الاولية مع الموقوفين، كما ان عمله هو محاولة الوصول الى المعلومات بشتى الطرق والوسائل. ومن هنا فإن مسؤولية السريّة تقع على عاتق المعنيين بالحفاظ على التحقيقات وسرّيتها(2)، وان حصل اي تسريب فهؤلاء يتحملون المسؤولية والقانون واضح لجهة العقوبات التي يجب ان تُفرض، انما يبقى هذا القانون كغيره من القوانين التي يكون تطبيقها رهناً بحسابات بعيدة كل البعد عنه.
(1) المادة 53 من اصول المحاكمات الجزائية: "يبقى التحقيق سريا ما لم تحل الدعوى على قضاء الحكم محكمة الجنائية او الجزائية ، باستثناء ما يتعلق بالقرار الظني، يتعرض مل من يفشي سرية التحقيق للملاحقة امام القاضي المنفرد الذي يقع ضمن دائرته الفعل المشكو منه ويعاقب بالحبس من شهر الى سنة وبغرامة من مئة الف الى مليون ليرة او باحدى هاتين العقوبتين".
(2)عاتق السرية يقع على: "قضاة التحقيـــق، الهيئة الإتهامية، النيابة العامـــة، مساعدي هؤلاء من مباشرين و كتبة و مترجمين، واخيرا المحامون الملزمون بالسر المهني".