عد انطلاق الثورة السورية والتأييد الأميركي لها ثم الاندفاع في إطلاق سلسلة من المواقف من رأس الإدارة الأميركية الى آخر معني فيها بالأزمة السورية، تؤكد كلها "فقدان النظام شرعيته وتدعوه إلى الرحيل" ثم لاحقاً في الحديث عن الدعم العسكري للثورة عندما حسم النظام خياره بالابتعاد عن الاستماع إلى مطالب الناس واللجوء إلى العمل الأمني حتى لو كلفت المواجهة مئات الآلاف من الضحايا كما كان يقول مسؤولون سوريون حينها! يومها راهن كثيرون من خصوم النظام على الموقف الدولي وتحديداً الأميركي الغربي. إنها أميركا إنه الغرب، إنها القوة، جاءت ساعة الحسم!
سقط الرهان حتى الآن، وسقطت سوريا في بحر من الدم، وتتحول محافظاتها ومدنها وبلداتها إلى ركام مع ملايين من المهجرين في الداخل والنازحين إلى الخارج، طالت الأزمة، باتت مقلقة مرعبة، تداعياتها على الجوار خطيرة، ذهب بعض من المراهنين إلى أميركا. سألوا الأميركيين: ماذا تفعلون؟ لماذا لا تقدمون السلاح للمعارضة؟ قالوا: نخشى أن تقع المساعدات في أيدي المتطرفين. قالوا لهم : في البداية لم يكن ثمة متطرفون لماذا لم تفعلوا؟ لا جواب، بل تبادل اتهامات داخل الإدارة الأميركية بين مسؤولين في ولاية أوباما الأولى ومسؤولين في الولاية الثانية. النتيجة واحدة: إنكفاء عن الدعم، خراب ودمار، تشتت المعارضة، تفكك سوريا، تدخلات إقليمية في سوريا، وتداخل وتشابك في عناصر الأزمة داخلياً وفي الجوار. ذهب لاحقاً آخرون الى أميركا، وسألوا مجدداً ماذا تفعلون؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ كان جواباً واضحاً: لماذا تستعجلون فليقتل الإرهابيون على الأرض السورية؟ هكذا نتخلص منهم جميعاً! وليكن استنزاف لإيران وروسيا و"حزب الله" في سوريا! كثيرون "قبضوا" هذه النظرية. كثيرون بينهم لم يسألوا أنفسهم أليس هذا استنزافاً للجميع؟
اتّسعت رقعة الحرب، الكلفة باتت عالية بشرياً ومالياً، أنفقت مليارات الدولارات من هنا وهناك ولا نزال مكاننا. يعني عملية الاستنزاف مستمرة، آبار النفط تنهب، ثم تقصف. يجب أن تكون تحت السيطرة، المصانع تدمّر أو تفكك. كل شيء مدمّر أو معـّطل، الحرب مستمرة. والتمويل مستمر، إنه استنزاف حقيقي للجيش الذي فقد 40 ألفاً من عناصره و28 ألفاً من أنصاره. واستنزاف للدولة ومؤسساتها - ما بقي منها - واستنزاف للمعارضات ومن يقف وراءها. ولإيران وروسيا والعراق و"حزب الله" وكل المتدخلين في سوريا!
في العراق، وبعد احتلاله لم يتوقف الاستنزاف، بل بدأ النهب والبناء المنظم غير القابل للاستمرار والانفاق على الجيش الذي تبين لاحقاً أنه ليس جيشاً قادراً مع سيطرة "داعش" في الموصل. اليوم استنزاف هائل مستمر، قتال بين ميليشيات مدعومة من إيران، بعضها مموّل من الدولة العراقية. عشائر مدعومة من دول مجاورة. "داعش" يسيطر، الأكراد يقاتلون "الإيزيديون" والمسيحيون هجــّروا، الحرب مفتوحة، والاستنزاف مفتوح، من خلال الحرب والحديث عن إعادة بناء الجيش في ظل كشف معلومات أميركية عن اختفاء مليارات الدولارات أثناء وبعد الاحتلال الأميركي للعراق، والحديث العام عن الفساد والمال المبددّ في العراق وما تحتاجه الحرب اليوم وإعادة البناء المتكررة للمؤسسات ذاتها. بناءً على الطلب وفق الحاجة. في سياق الاستنزاف. إنه استنزاف لإيران والسعودية والخليج عموماً.
في البحرين، استنزاف مشابه لهذه الأطراف.
في اليمن تساؤلات كثيرة حول سقوط صنعاء وإب وغيرهما في أيدي الحوثيين وسيطرة هؤلاء على الحديدة وتكريس موقع لهم ولمن وراءهم على البحر. وحرب مفتوحة بين الحوثيين وخصومهم، وجيش منهك . و" قاعدة " تناصرها عشائر. وتمويل مفتوح. أجاب بعضهم على هذه التساؤلات : لماذا تتفاجأون؟ إنه استنزاف لإيران أيضاً. هل بإمكانها تمويل اليمن وتحمـّلها. وتمويل سوريا وتحمـّلها. وتمويل المعارضة في البحرين وحزب الله في لبنان وثمة عقوبات مفروضة عليها باتت ترهقها ؟ انتظروا قليلاً سترون النتائج!
ويضيف هؤلاء : وثمة استنزاف من نوع آخر: تخفيض أسعار النفط والغاز الى حدود كبيرة، هذا يؤذي روسيا وإيران معاً الداعمتين للنظام في سوريا. وروسيا التي تورطت في أوكرانيا اقتصادها ينهار، وهي تعترف بالمتاعب والحصار عليها سيستمر، سيضطرون جميعاً للمجيئ إلينا للتفاوض معنا حول كل القضايا!
قد يكون لهذه النظرية مكانها في التحليل والتخطيط لمستقبل المنطقة والضغط على روسيا وإيران. ولكن، لمصلحة من؟ ما هو دورنا؟ ما هو موقعنا في هذه العملية نحن العرب؟ وماذا عن إسرائيل؟
في ليبيا، دمار دولة، واستنزاف مفتوح ونهب لثرواتها وخيراتها وانقسامات وحروب، وفي الصومال مجاعة وحروب وفي السودان تقسيم واستنزاف، وفي الحرب على غزة، دمار وخراب وابتزاز واستنزاف مفتوح تحت عنوان إعادة الإعمار. وما يجري في اليمن والبحرين والعراق وسوريا استنزاف يعنينا أيضاً ولا يعني روسيا وإيران فقط. بل نحن ندفع الفاتورة. الدول تفكك، الحالات المذهبية والطائفية تستشري، والجيوش تنهار، والتنظيمات هي الأكثر قوة وسيطرة، والاستنزاف مفتوح في وجهنا من انخفاض سعر النفط الى تمويل الحروب المذكورة والأفق غير واضح أمامنا! هذا مشهد بشع من مشاهد الابتزاز والاستنزاف في "كوباني" في سياق لعبة دولية إقليمية خبيثة .
إنها عملية تدمير ونهب وتخريب لكل المنطقة وتستهدف العرب والمسلمين وثرواتهم لتبديدها وإبقاء نار الفتن مشتعلة عندهم. ولاننسى أن الاستنزاف مفتوح منذ سنوات طويلة. 15 عاماً في الحرب اللبنانية، ثم في الحرب العراقية - الإيرانية. ثم في التحالف الدولي لتحرير الكويت من غزوة صدام حسين التي ورطته بها السفيرة الأميركية إبريل غلاسبي وقاده جنون ونشوة العظمة إلى تلك الحرب التدميرية التي مهّدت للإطاحة به واحتلال العراق وتدميره!