منذ إندلاع الأحداث الدمويّة الأخيرة في الدول العربية، وخاصة في سوريا، كان أركان "جبهة المُمَانعة" يتحدّثون حَصراً عن صراع سياسي، ويَنفون أيّ بُعد مذهبي للنزاع، على الرغم من آلاف المقالات والدراسات التي تحدّثت عن أبعاد عقائدية ودينية ومذهبيّة وتاريخيّة لهذه الصراعات المفتوحة، إضافة طبعاً إلى الجوانب السياسيّة والإقتصاديّة والسلطويّة. لكن، وخلال إحياء الليلة الثالثة من مراسم عاشوراء، تحدّث الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله بشكل صريح ومباشر عن "منهج فكري" ينسب أعماله مباشرة "إلى كتاب الله". وبالتالي هو تناول جهاراً البُعد العقائدي والفكري للصراع الدائر حالياً، وذلك في خطوة هي الأولى من نوعها، بعد أن كانت أغلبية الخطابات السابقة تتحدّث عن صراع عسكري بين مشروعين سياسيّين، أحدهما تمثّله روسيا وإيران وسوريا و"حزب الله" من جهة، والآخر تمثّله الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية والعربيّة الدائرة في فلكها والجماعات المُمَوّلة منها. وإتّهم السيد نصرالله أتباع هذا التيار بالإستدلال بآياتٍ قرآنيّة وبما أسماه "أحاديث مكذوبة عن الرسول" لتبرير ما يقومون به من أعمال، مُؤكّداً أنّ ما يجري "لا يمتّ إلى الإسلام بصلة"، الأمر الذي يؤكّد الخلاف الفقهي المذهبي للصراع، خاصة وأنّ من يُواجههم فريق السيد نصرالله يعتبرون أنّهم ينشرون دولة الخلافة ويرفعون راية الإسلام من جديد وأنهم يُحَاربون "الخارجين عن الإسلام" و"الكفّار".
وأرفق السيد نصرالله إقراره بالبُعد الفكري والعقائدي للصراع بين الجبهة التي ينتمي إليها وتلك التي تحرّك الجماعات الإسلامية السلفيّة الجهاديّة، باعتباره أنّ "الفكر الوهابي" الذي "نشأ كتيار فكري جديد في المنطقة العربيّة منذ مئتي عام"، يُمثّل "أصل المشكلة"، مُتناولاً كيفية نشوئه وإنتشاره، ومتحدثاً عن إنفاق "مئات مليارات الدولارات" لتعميم هذا الفكر، ومُعتبراً أنّ السعودية "هي المسؤول الأوّل عن وقف إنتشاره". وبالتالي، بعد أن كانت الإتهامات المُوجّهة إلى السعودية تتحدّث في السابق عن تمويل وعن تسليح للجماعات الإسلامية، صار الإتهام لها اليوم يتناول دور الرياض العقائدي في تعميم هذا الفكر المتشدّد. لكن ما تجاهله السيد نصرالله أنّ بعض التيّارات التي تُوصف بالتكفيريّة هي في صراع شرس مع الحُكم في المملكة العربيّة السعوديّة، وهي تحاول إنتزاع تمثيل المسلمين في العالم وبناء مرجعيّة مستقلّة لها عبر إحياء "الخلافة"، في خطوة تعمل الرياض على مُحاربتها بقوّة، مع التذكير أنّ السعودية كانت مثلاً في طليعة من واجه صُعود "الإخوان المسلمين" في مصر وغيرها، ومن مَوّل إسقاطهم، لأنّهم قد يسعون لتشكيل مرجعيّة دينيّة للمسلمين منافسة لمرجعيّتها. وهي تحارب أيضاً "السلفيّة الجهاديّة" وتعتبرها تحويراً لمنهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1)، علماً أنّ تمويل بعض الجماعات الإسلامية يأتي من بعض المُتموّلين السعوديّين المُستقلّين، وليس من قبل الُحكم، وتجنيد بعض السعوديّين للجهاد يتمّ على يد بعض الشيوخ المتشدّدين، كما يحصل في أفغانستان وباكستان وليبيا وإندونيسيا وغيرها من الدول الإسلامية.
وكان لافتاً إقرار الأمين العام لـ"حزب الله" بأنّ "هذا الموضوع أعمق من أن يُعالج أمنياً وعسكرياً"، متوقّعاً فشل "طائرات التحالف" بحلّ هذه الظاهرة، ومؤكّداً أنّ "المواجهة يجب أن تكون بالدرجة الأولى ثقافية وفكريّة وعلميّة"، وأنه "يجب إقفال أبواب المدارس التي تُخرّج أتباع الفكر الداعشي". لكن ما أسقطه السيد نصرالله يتمثّل في أسباب تنامي هذا الفكر التكفيري في هذه المرحلة بالتحديد، علماً أنّ المنحى العُنفي لهذا الفكر تصاعد بشكل لافت خلال العقود الثلاثة الماضية، وكأنّه ردّ على "ثورة الإمام آية الله الخميني" التي يتواصل العمل لنشر عقائدها في الكثير من الدول العربية حتى تاريخه. وبالتالي، صحيح أنّ محاربة أصحاب الفكر التكفيري ومنفّذي الأعمال الإرهابية المثيرة للإشمئزاز، يبدأ بوقف غسل بعض الأدمغة الفارغة بعقائد مُتَخلّفة، لكن الأصحّ أيضاً أنّ القضاء على هذه الظاهرة يجب أن يمرّ أيضاً بسحب الحُجَج والتبريرات التي ينطلق أصحاب الفكر "الداعشي" منها لتبرير أعمالهم، وفي طليعتها التعرّض للإضطهاد المذهبي، كما حصل مثلاً في العراق خلال العقد الأخير، والتعرّض للإضطهاد الأمني الإستخباري بخلفيّة مذهبيّة أيضاً كما حصل مثلاً في سوريا منذ أربعة عقود حتى اليوم.
وفي الخلاصة إنّ الإقرار بالخلفيّة الفقهية والعقائدية للصراع الحالي هو نصف الحقيقة، وحصر مسؤولية الأزمة ومفتاح حلّها أيضاً بالسعوديّة وحدها، من دون الحديث عن أيّ دور إيراني في هذا المجال، يعني منح "الإسلاميّين السلفيّين الجهاديّين" ما يريدونه من ذرائع للإستمرار بأعمالهم البربريّة تحت ستار الدين.
(1)الوهابيّة هي دعوة أو حركة إسلامية متشدّدة ظهرت في نجد في مطلع القرن الثامن عشر على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1792)، وركّزت على محاربة كل مظاهر البدع والخرافات التي كانت راسخة في مجتمعات الجزيرة العربيّة آنذاك.