أطلق الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله مجموعة عناوين كبرى في لحظات تتراكم فيها ملفّات عديدة من أمنية وسياسيّة ودستوريّة، هي أساس الصراع في لبنان والمنطقة، فنّد في مندرجاتها مفاصله. قمّة التفنيد عنده إعلانه أنّ الصراع في المنطقة ليس شيعيًّا-سنيًّا. هذا هو العنوان الكبير بل الأكبر في الخطاب العاشورائيّ، والذي تحته تتجمّع العناوين الأخرى وبخاصّة المحليّة. ففي مصر وليبيا وفي بعض وجوه الصراع في سوريا والعراق خلال حكم صدام حسين، ليس من عثور على سلوكيات مذهبيّة صادمة، بل الصراع بات بنيويًّا ضمن الدائرة السنيّة. لقد أبطل خطابه اصطفاف الصراع ونزع عنه صفة المذهبيّة، ليعلن بأنّ المعركة هي مع تنظيم وجبهة يخوضان حربًا حاقدة وإلغائيّة على المكوّنات المؤسّسة للمشرق العربيّ.

هذا العنوان الذي انتهى إليه الخطاب هو المقدّمة السياسيّة التي انطلق منها الأمين العام لـ"حزب الله"، بهدوء، خلوًّا من عصبيّة مغلقة أو حقد أعمى، ليشكر "تيار المستقبل" ويشيد بدوره في الصراع في طرابلس. لا تتمحور المسألة على الإطلاق في مجرّد الإشادة بقدر ما تكشف عن رؤية عميقة تشاء الاتجاه إلى مسرى حواريّ إيجابيّ يتجاوز العداوات والصراعات الدائرة على الأرض في سوريا، ليلامس بهدوء وصفاء، العناوين المتفجّرة في لبنان، وهي ليست بمنأى عن الصراع في المنطقة بقدر ما هي جزء منها. مصادر في قوى الرابع عشر من آذار، أضاءت على هذا الخطاب بكثير من الترقّب الحذر، واعتبرت أنّه محاولة تكتيكيّة ليس إلاّ، وهي تهدف إلى تمرير الوقت، وتسأل تلك المصادر في معرض قراءتها، لماذا أطلق مبادرته الآن ولم يطلقها من قبل، وتاليًا، هل يستطيع القيام بعمليّة الفصل بين الداخل والخارج، هل يستطيع أن يفصل نفسه بالمطلق عن إيران، فيتلبنن الحوار؟ وتكرر تلك المصادر الدعوة لكي يخرج الحزب من سوريا ونتفق بعد ذلك على قراءة جديدة...

غير أنّ تلك المصادر غفلت بأنّ دعوة السيد نصرالله غير منفصلة عن قراءة أجراها بتؤدة لبعض المتغيرات الطارئة المتعلّقة حتمًا بعمق المحادثات الأميركيّة-الإيرانية حول تخصيب الأورانيوم وما إليها. لا يعني هذا التحليل بأنّه ربط قراءته بتلك المحادثات أو جعلها منطلقة من فحواها، بل على العكس، وعلى الرغم من أن تأثير المناخ أيّ مناخ إقليميًّا كان أو عربيًّا أو دوليًّا، قائم في بنية الحسابات عند الأفرقاء السياسيين، لكن التأثير لا يعني بأنّه استئثار أو استبداد، فيشبّه للبعض بأنّ كل قربى أو محاولة قربى ممكنة بين اللبنانيين لا تتمّ إلاّ بالإيحاء أو ثقافة الإملاءات أو الإلهام المنهمر من هنا أو هناك. يصف مراقب سياسيّ يمتاز بالعقلانيّة خطاب السيّد حسن نصرالله بأنّه غير محصور بماضويّات عبثيّة في ظلّ حركات تكفيريّة إرهابيّة لا تعترف بالمقومات الحضاريّة المنغرسة في بنية المشرق، وهو في مطلق الأمور لا ينتمي إليها أي إلى تلك الماضويات العبثية المستهلكة، إذ إن اللاهوت الشيعي، إذا ساغت التسمية يقارب جدّة الحياة باجتهادات حداثويّة، ولا يصطفي ذاته حروفيًّا لكونها نافرة وترتوي من دماء الأبرياء. من هنا إن خطاب السيد نصرالله حواريّ ولا بدّ من أن ينكب على العناوين التي هي مدى خلافيّ جوهريّ بين المكوّنات جميعها.

يبقى أنّ السيد نصرالله الذي أعلن بوضوح أنّ العماد ميشال عون هو مرشّحه للرئاسة لم يربط محتوى الترشيح بمقايضة حاول وبحسب بعضهم إظهارها بالنسبة إلى ​التمديد​. ذلك أنّ العلاقة مع ميشال عون استراتيجيّة عميقة أبعد من خلاف حول ميثاقيّة التمديد للمجلس النيابيّ، وهو قائم وموجود ولا يمكن لأحد التنكر له لا في "حزب الله" ولا في "التيار الوطنيّ الحرّ". وفي مطلق الأحوال، فقد بات واضحًا بأنّه لم يظهر حماسًا واضحًا للتمديد فهو جاهز وكما أعلن للانتخابات بحال حصلت، كما هو جاهز للتمديد بحال تمّ.

خطاب السيد حسن نصرالله فصل بين ماض محشوّ بالصراعات وحاضر يمكن أن يستفيد من سلبيات الماضي ليصير إيجابيَّا، على الأقل في ظل التهديد المستمرّ من "داعش". المأساة أن بعضهم لا يزال يموّه في ردّه عليه بمسألة المجزرة التي ارتكبها تنظيم "داعش" بعشيرة أبو النمر، مستهينًا قبل ذلك بسلخ مسيحيي العراق عن أرضهم وجذورهم. ما حاول قوله السيد نصرالله بأن الخطر الذي يمثّله تنظيم "داعش" وجوديّ بامتياز، وجوديّ على المسيحيين والشيعة والدروز والسنّة. بعض المراجع الأمنيّة كشفت أنّ الجيش لو لم يحسم الصراع في طرابلس لكانت النتيجة كارثيّة ليس على الشمال بل على لبنان في تكوينه الطائفيّ والسياسيّ. هذا ما أشارت إليه تلك المراجع بوضوح، وذهب بعضهم بالتشخيص على غرار الأطباء بأنّ أحشاء التكوين اللبنانيّ لن يكون باستطاعتها امتصاص هذا الجسم الغريب، فهو صلب غير قابل للهضم، وبالتالي، فإنّ التكوين اللبنانيّ بسائر المكوّنات سيتقيّأه، إنّه مشروع موت وليس مشروع حياة.

إن دعوة السيد حسن نصرالله للحوار استندت إلى تلك المعطيات. والانكباب على دعوته للحوار باتت ضرورة ملحّة، في ظلّ أزمنة العنف العجاف. والأهم في هذا الحوار الاتفاق على قانون انتخابات يؤمّن المناصفة الفعليّة وانتخاب رئيس يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريّته الساحقة.

يبقى السؤال الأخير والذي لم يجب السيّد نصرالله عليه لماذا الإلحاح من السنّة والشيعة على تمديد طويل الأمد يعطب المقومات الدستورية والميثاقيّة القائلة بأن الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة، بدلاً من تمديد قصير ريثما يتم التباحث بقانون جديد، وهو من الذين وقفوا إلى جانب المسيحيين حين اتفقوا على مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ؟ هذا سؤال لا بدّ له أن يجيب عليه في الأيام المقبلة.