لم يعرف اللبنانيون أن يحافظوا على قيمة الاستقلال الذي أنجزوه في العام 1943، فتركوا المجال رحباً للرياح الإقليمية والدولية، ولعوامل كثيرة بعضها اجتماعيّ - اقتصاديّ وبعضها سياسيّ محليّ، أن تتسلل إلى الطوائف، وتؤجّج النعرات.
يعترف الخوري ميشال العويط، حافظ أسرار البطريركية المارونية لأربعة وثلاثين عاماً في كتاب يصدره الأسبوع المقبل عن "دار النهار للنشر" بعنوان "وصيّتي إلى الموارنة"، ان إصلاح النظام السياسي شكّل انقساماً واضحاً بين اللبنانيين. وكان ثمّة موقفان في السبعينيات: واحد معارض لأيّ تعديل للدستور يرمي إلى إضعاف صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، وآخر أكثر تجاوباً مع طروحات التغيير والتأقلم مع معطيات الواقع.
وإذا كان صحيحا أنّ "صلاحيّات رئيس الجمهوريّة الدستوريّة كانت واسعة، فالصحيح أيضاً أنها، في مجال الممارسة، لم تكن كذلك. وكان الأنسب للقيادات المارونيّة تكريس هذا الواقع في نصوص دستوريّة، تأكيدًا لمبدأ مشاركة المسلمين المتوازنة في السلطة؛ وهذا ما فعلوه في اتفاق الطائف، إنّما بتأخير خمس عشرة سنة"، يذكر الكاتب.
وعن موقف الكنيسة من "وثيقة الوفاق الوطني" يشرح من اختبر أكثر المراحل حراجة في تاريخ الوطن، ان الهمّ الأول كان العمل على وقف دوّامة العنف، التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى باتت تهدّد المصير الوطنيّ برمّته. من هذا المنطلق شجعت الكنيسة الساعين إلى إيجاد الحلول لإنهاء الحرب، وساهمت في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها اتفاق الطائف. ونظرت إلى هذا الاتفاق على أنّه مدخل لطيّ صفحة الصراعات الماضية بين من كان يطالب، بإسم العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين من كان يسعى، باسم الحريّة، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيّته. ورأت الكنيسة كذلك أنّ هذا الاتفاق يثبّت أولويّة العيش المشترك على كلّ ما عداه، ويجعل منها أساسًا للشرعيّة.
لا يخفي الكاتب أن كنيسة لبنان جُرحت في صميمها وامتحنت خصوصا في ضميرها. فقد شاهدت بنوع خاص أبناءها يُقتلون ويَقتلون ويتقاتلون. وهي لا تزال تعاني نزاعاتهم المتوقّدة دائماً، وتؤلمها بطريقة موجعة الهوّة العميقة التي حفرتها هذه السنوات المضطربة بين عدد من أتباعها وبين هؤلاء والسلطة الكنسيّة.
يشير إلى أن اتفاق الطائف الذي قلّص صلاحيات الرئيس الماروني، لم يلقَ التنفيذ الفعلي من جوانبه كافةً، فظلّ لبنان حتى هذه اللحظة، عالقاً في الفخّ الوجوديّ الخطير. فقد تمكّنت "سلطة الوصاية السوريّة من تحوير مضمونه فضربت العقد الإجتماعي في الصميم... ووضعت خطّة استهداف مبرمجة اتخذت أشكالاً متنوّعة: استهداف سياسيّ عبر اعتماد قوانين انتخاب لا تراعي التمثيل الصحيح، واستهداف أمنيّ طاول عدداً من التنظيمات والشخصيّات السياسيّة والشباب المسيحيّ في لبنان والخارج، واستهداف ديموغرافيّ تمثّل بإقرار مرسوم التجنيس، عام 1994، الذي منح الجنسيّة دفعةً واحدة لما يزيد على 300 ألف شخص، معظمهم من غير المسيحيّين ومن غير مستحقّيها ومن حاملي جنسيّات أخرى، واستهداف إعلاميّ بغية تخوين جماعيّ للمسيحيين وتشويه صورتهم والنيل من دورهم الرائد في لبنان".
يشرح الكاتب رفض الموارنة الاحتكام إلى أيّ شكل من أشكال العنف والصدامات المسلّحة بعد توقيع "وثيقة الوفاق الوطني". فكان اعتمادهم على الجيش وقوى الأمن الداخلي للمحافظة على أمن المواطنين والاستقرار، ونشدوا الدولة مرجعاً حاضناً للجميع. واليوم، يتطلّع الموارنة الى استكمال تطبيق اتفاق الطائف، والنظر في ما يجب إيضاحه أو تفسيره أو تطويره في ضوء التجربة المعيشة، بما في ذلك صلاحيات رئيس الجمهورية، لسدّ الثغر الدستورية والإجرائية التي ظهرت في تجربة ممارسة الحكم منذ هذا الإتفاق.
لا يريد الموارنة أن يحكموا الآخرين، يقول الخوري ميشال العويط، ولا يريدون في المقابل أن يحكمهم الآخرون. ويعيد التذكير بما نشره العام 1987 في كتاب له عن الموارنة والذي شكّل مادة لثلاث افتتاحيات في "النهار" للراحل الكبير ميشال أبو جودة قائلا: "قد يتخلّى الموارنة عن رئاسة الجمهورية في لبنان وعن كلّ مراكز القرار، إذا كان الإحتفاظ بها يعني الإحتفاظ بنفوذ أو جاه أو محاصصة أو مغانم. لكنهم سيحتفظون بالرئاسة وغيرها، إذا كان التخلّي عنها يعني التخلّي عن حرّيتهم ووجودهم الحرّ الكريم"...
حول ما يريده الموارنة اليوم، يرتكز الكاتب على مواضيع عديدة، بينها تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية، و"قد عانوا على مرّ الأزمنة تداعيات هذه الصراعات على واقعهم وعلى الوطن الذي ارتضوه أرض حريةٍ وحوار ورسالة"، مع التزام قضايا الأسرة العربية، وبخاصة القضية الفلسطينية، وتلك المتعلّقة بالعدالة، والعيش معاً، والتنوّع في الوحدة، وحقوق المواطنة، وبناء السلام. ويضيف إليها، الدولة المدنية، وتحقيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، وعدم تكبيل المؤسسات الدستورية ورهنها بخيارات الأفرقاء الذين يدّعي كلٌّ منهم أن خياراته هي المنجّية، وضرورة وضع قانون إنتخابي نيابي جديد يترجم المشاركة الفاعلة في تأمين المناصفة الفعلية، والاختيار الحرّ، والمساءلة والمحاسبة، ويؤمّن التنافس الديموقراطي، ويُلغي فرض نواب على طوائفهم بقوّة تكتّلات مذهبية.