مرّت ليالي عاشوراء، بما تمثل هذه الذكرى من أهداف انسانية نبيلة، تدعو إلى التقدير والفخر والاجلال، نقفها بإسم الحرية والأحرار، لمن واجه الظلم والظالمين، أبي عبدالله الحسين عليه السلام، نقفها مع الجهاد الحسيني وشهادته، التي شكلت فجرًا جديدًا، ونهجا سار عليه ابنه الباقر وحفيده الجعفر الصادق، نهج الصالحين والقديسين، نهج الامامة في عَقب ابراهيم في اسحق ويعقوب والاسباط، إلى دعوة السيد المسيح الذي بشّر بخاتم الانبياء الذي قدّم عليَّ وفيه نزل قوله تعالى "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ" (البقرة: 207).
هو نهج ابراهيم، نهج من ابتُلي بتقديم ولده الذبيح زارعاً شعار التضحية مسلكا لحمل رسالة الهدى، ورفض الطغيان، وكان المفترق بين الحق والباطل، وشقّ طريق العدالة، لتستمر حالةً متقدّمة وراقية، التزاماً بالحقّ والاصلاح، بقوله: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمُرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسيرَ بسيرة جدّي وأبي".
كما جعل النهج الحسيني المتمسك بالحق، والرافض لكلّ أشكال الاستبداد، من أيام عاشوراء ذكرى تاريخية فيها من النور والحكمة والفضائل، ليست للطائفة الشيعية الكريمة فحسب، إذ إنّ جعل الحسين حكرًا على طائفة أو فئة من شأنه أن يهبط بدم الحسين وهو في أعلى عليين، بل لكلّ المظلومين من أصحاب منطق القوة والسيّطرة أينما حلّوا، تسمو بقيمتها الوجدانية الى "عالم أكثر انسانية" (كمال جنبلاط)، وتعطي للثورة واقعها التغييري نحو الافضل، فتبقى كربلاء المحطة الأبرز في بعث الرّسالة الإسلامية على عهد رسول ونبّي الرحمة محمّد ابن عبدالله (ص) وآلِ بيته الأطهار (ع).
قال المهاتما غاندي، "إنّي تعلّمت من الحسين كيف أكونُ مظلومًا فأنتصر"، وقال الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين "إنّ الغاية الأساسية من ثورة الحسين، بأنها ثورة إصلاح، وبأن عاشوراء تتخطى معنى تعزيز الأسى بالحرمان، لأنها زمن تجديد الوعد بالسير في طريق الحق والعدالة". فسلام عليك أيها الامام الثائر، أيها الشهيد السائر في طريق الثورة القائل "أن لا سعادةَ مع الذل ولا ركونَ للظلم والطغيان"، (هيهات منّا الذلة) وأن حياةَ الإنسان رسالتُه وليس عدد أيامه، وانها الحق، وأنت القائل :"إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما".
نستذكر في استشهاد الحسين وعذاب أهله، تلك الصفحات المؤلمة من التاريخ، لأخذ العبر من أجل إصلاح ذواتنا، وافادة مجتمعنا الى مستوى العدل والتآخي، كيف لا وقد خطّت تلك الدماء والعذابات طريقاً مجيداً نحو الخالق، ومساراً جديداً الى الينابيع الصافية، إثر كمٍ من الجور والظلم والطغيان. اذ كَم من نبيٍّ قُتل بقطع رأسه بالسيف واضعين عليه اكليلاً من الشوك، أو مصلوبُ آلام على خشبة صليب الجلجلة لاختبار فرح القيامة، أو رسول حوصر واضطُهد أصحابه والمؤمنون، ومُشِط رأسه بأمشاط الحديد، وكم صبر ايوب على صبره، لكن الفرج في النهاية جاء. "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (البقرة: 214).
باسم مظلومية الحسين نبتهل الى الله تعالى الرأفة بكل مظلوم، في كل مكان، في ذكرى هي رمز لكلّ المسلمين، من أيّ طائفةٍ، إلى واحةٍ إسلاميةٍ إنسانيةٍ جامعة، تشيّعت لبيتٍ هو أقدسُ البيوت ولإمامٍ هو والرسول أبوا المؤمنين، مؤكدين على المبادئ التي تعلمناها من سيرة نبيِّنا الأكرم (ص) وأئمّتنا الأطهار من آل البيت (ع). نشارك في الذكرى للحضّ على التراحم بين ابناء الأمة، وعلى التسامح والتآخي. فدمَ الحسين يستصرخُ ضمائرَنا، لكي لا نظلمَ أحداً ولا نقبلَ الظلمَ من أحد، داعين مع الامام السجّاد (ع) "اللهمَّ فكما كرّهت إليّ أن أَظلُمَ فقني من أن أُظلَم". وكم من ظلم لحق ويلحق بالشعوب، لا سيما في بلداننا المجاورة، وإن تداخلت في مجرى ذلك بعض الأمور الآتية من خارج هذه البلدان، فذلك طبيعي في المسار التاريخي لكل حركات التغيير في كافة أصقاع العالم. نشارككم للتأكيد على وحدة الكلمة كعائلة واحدة تعمل لصون وطنها والحفاظ على مستقبله واجياله، بعيدًا من التوتير المذهبي والطائفي الذي من شأنه زعزعة الامن والاستقرار، إلى لقاءاتٍ فكرية وثقافية ومعرفية ضمن ثورة شاملة لغرس المحبة والسلام في القلوب وتعزيز وترسيخ سبل الحوار والعيش الواحد وتقبل الآخر بكل انفتاح. هنا نذرف الدمع والدموع على مظلوم، وثمة من لم يأخذَ الدروسَ والعبر من مآسي الماضي ومرارات التاريخ، ومن عاقبة التحدّي والقهر والتطرف والخروج عن الاعتدال. من ثورة الإمام الحسين التي شكّلت التجربة الأولى على المستويين الإسلامي والعربي، في التعبير عن إرادة شعبية ضد الحاكم، أولم يقل رسول الله (ص) "إن أعظم الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر". فلنعمل كلنا متحدين متضامنين في سبيل خير وطننا لبنان وكل بلدان المنطقة على أساس الحق والعدالة والمساواة، وتجديد الالتزام الدائم لها، واعين إلى أن ذكرى عاشوراء يجب أن تبقى راية مرفوعة لتلك الغاية بالذات، ويكونَ عملُنا المشترَكُ مُنصبّاً على تأليف القلوب وتقريب الآراء والاعتصام بحبل الله الذي هو الدربُ الى النجاة والنجاح.