للاستقلال بيت في بلدة بشامون. كم عدد اللبنانيين، المستقلّين، الذين يعرفون ذلك؟ أيّاً يكن، فذلك البيت، الذي سقط حوله «شهيد الاستقلال» الوحيد، والذي رُفع على سطحه العلم اللبناني حكومياً لأول مرّة، والذي صدر منه «البلاغ رقم واحد» عام 1943... استقلّت عنه الدولة واستقالت منه، منذ ذلك التاريخ، إلى أن تفسّخت لوحته التذكارية أخيراً وضاعت... إلى الأبد
هناك منزل في بلدة بشامون (قضاء عاليه) يُعرف بـ«بيت الاستقلال». ماذا تعرف عنه يا قاسم؟ «شو هو هيدا؟»... ماذا تعرفين عنه يا جيسّي؟ «بيت مين؟»|... قاسم وجيسّي لا يعرفان عن البيت المذكور شيئاً. شاب وفتاة، لبنانيّان، في العقد الثالث من العمر، ليس فقط لا يعرفان بل لا يعنيهما أن يعرفا أصلاً. يمكن لمن يعيش في لبنان أن يلحظ أن كلمة استقلال، بكل ظروف استخدامها، لا تعني للناس كثيراً، وهي إن استخدمت من قبلهم فإنها تأتي غالباً من باب السخرية. يظهر أن الأمر أقرب إلى المزاج العام. ربما لأن السؤال الواقعي هنا: ومتى شعر الناس هنا أنهم مستقلّون حقاً؟
دعكم من سياسة الأقطاب والمحاور قديماً وحديثاً. دعكم من الميل إلى الصحراء في مقابل نزعة «الفينيقي البحّار». لنبتعد قليلاً من جدلية «لبنان بلد ذو وجه عربي» أم «عربي الهوية والانتماء». حسناً، ماذا عن «بيت الاستقلال» الرابض على أعلى تلال بشامون؟ يقال إنه البيت الذي رُفع فيه العلم اللبناني، حكوميّاً، لأول مرّة عام 1943. مجيد إرسلان وحبيب أبو شهلا وصبري حمادة ما عادوا هنا، رحلوا، تاركين خلفهم ذاك البيت الصغير، ذو الغرف الثلاث، الذي يشهد واقعه على أن لا أحد تعامل مع الاستقلال، منذ الاستقلال، على أنه استقلال. طيّب ماذا عن الشكليات؟ (أقلّه هذه يعني). حتى الشكليات، كما يجب أن تكون، لم تكن يوماً «استقلالية» حيال البيت المُرمّم حديثاً.
في الواقع، هو بيت الشيخ حسين الحلبي لا «بيت الاستقلال». يقيم فيه اليوم جهاد الحلبي، حفيد حسين، الرجل الذي لا يخفي حنقه على «الدولة» وهو على بعد أيام من «عيد الاستقلال». أكثر من 70 سنة، لم يخطر في بال السلطات، رغم تعاقب أشخاصها وميولها وسياساتها، أن تبادر إلى ترميم البيت، أو حتى الاهتمام به، إلى إن تطوّع لذلك صديقان لجهاد وقد فعلاها أخيراً (جهاد ومهاب حسّان).
أكثر من ذلك، ثمّة ما يشير إلى أن الطبقة السياسية الحاكمة، منذ الاستقلال إلى اليوم، لم تكن «قابضة» الاستقلال جديّاً. فنصف قرن، يقول الحلبي الحفيد، وأحد في «الدولة» لم يقرر إصدار مرسوم بضم البيت إلى لائحة الزيارات البروتوكولية في الذكرى السنوية، إلى أن فعلها رئيس الجمهورية السابق إميل لحود... «فشكراً للحّود».
الآن، وعلى قاعدة زوروني كل سنة مرّة، يحل وفد (ممثل) الدولة على بيت آل الحلبي، مع إكليل من الزهر، ثم «يغدقون علينا بوعود الترميم والرعاية». ثم ماذا؟ «وتسألني ماذا! هل هذه بحاجة إلى سؤال؟ يتبخرون كوعودهم». تدخل والدة جهاد على الخط قائلة: «يشربون القهوة ويرحلون». هل يجلبون معهم ولو نصف كيلو من القهوة كهدية لكم؟ «أبداً»... تجيب السيدة الثمانينية. يعني «الدولة» تكلّفكم أيضاً! تبتسم السيدة وتهز برأسها.
رجال الاستقلال، كما درجت العادة في تسميتهم، تطرقوا في مذكراتهم، وفي بعض المقابلات الصحافية، إلى حكايات ذلك البيت الجبلي. فبعدما أصبح رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، ومعهم وزراء ونائب، أسرى قلعة راشيا، ضاق لبنان بـ«المير» مجيد إرسلان ورفاقه. وحده حسين الحلبي ضرب على صدره، على عادة العرب قديماً لناحية إكرام الضيف وإجارة المستجير. عرض على إرسلان النزول في بيته. الحلبي الحفيد، وعدد من أبناء البلدة، يقولون بأن «وزير الحرس الوطني» قال للحلبي يومها «ربما هدم الفرنساوية دارك»... فردّ الحلبي: «فدا الوطن». حكايات كثيرة نسجت على منوال الوطنية تجدها في ذكريات الاستقلال. الناس يحبون هذه التفاصيل أكثر من القضيّة. يحفظونها أكثر مما يحفظون عناوين «الثورة». ربما لأنها تشبههم أكثر من حكايات «دهاليز السياسة».
قبل وصول إرسلان وأبو شهلا وحمادة إلى بشامون، قصدوا جهة أجنبية أخرى، غير «الفرنساوي» الحاكم باسم الانتداب. من يا تُرى؟ إنه المفوّض البريطاني في لبنان «الجنرال سبيرز» (إلى اليوم لا يزال شارع رئيسي في بيروت يحمل اسمه). سلّموه «الوثيقة التاريخية» (الدستور المعدّل) ليرفعها إلى حكومته.
ليس المقام لذكر «الألعاب السيادية» التي دارت في تلك الحقبة بين السياسيين اللبنايين، فرنسية تارة وبريطانية أخرى، ولكن تاريخ لبنان، المعلن أقلّه، فيه الكثير مما يؤكد أن هذه البلاد ما كانت في يوم من الأيام مستقلة... حتى في عزّ لحظات إعلان الاستقلال. يومها عرض سبيرز على الوفد اللبناني، المتواري عن أنظار «البوليس» الفرنسي، وضع طائرة حربية بريطانية بتصرفه، تنقله إلى مصر لتفادي الصدام، وذلك بغية تأليف حكومة منفى. (من لطيف الصدف أن تأتي ذكرى الاستقلال في لبنان، هذا العام، في ظل الكثير من حكومات المنفى لأكثر من بلد عربي - تلك العادة القديمة). في تلك اللحظة، يقال إن «المير» رد على المفوّض البريطاني قائلاً: «إننا مصممون على المقاومة. إما الاستقلال وإما الاستشهاد».
يصل الوفد المُطارد إلى بشامون، ينزلون في بيت الحلبي، وتنطلق المقاومة. ها هي «الحكومة الشرعية» تُعلن مضيها بـ«الجهاد ضد الفرنسي» حتى إطلاق سراح المعتقلين في قلعة راشيا. تصوّروا، لبنان الرسمي، أيام الاستقلال كان يُسمّي المقاومة الشعبية «جهاداً». نسخة البيان الرسمية هذه، الموقع عليها من أبو شهلا (نائب رئيس الجمهورية) وإرسلان (وزير الداخلية والدفاع الوطني) وصبري حمادة (رئيس مجلس النواب) معلقة اليوم في «بيت الاستقلال». البيت الذي حاولت القوات الفرنسية، المدججة بالجنود السنغاليين، كدشم في واجهات العسكر، أن تصل إليه، لكنها فشلت. استشهد الشاب سعيد فخر الدين، ابن بلدة عين عنوب، أثناء تصدّيه لتوغل قوات الاحتلال. نعاه الوزير إرسلان، في البلاغ رقم واحد، بتاريخ 17 تشرين الثاني، معلناً أنه «شهيد الاستقلال الوحيد».
كثيرون لم يتنبهوا إلى أن ترميم البيت في بشامون، المنجز أخيراً، حصل بعيداً من إدارة الدولة! هذا المعلم الأثري، الذي يقول ساكنه اليوم، إنه كان يتوقع أن تتعهده الدولة في كل شيء، والذي اضطر في النهاية إلى إصلاحه هو، أصيبت فيه أثناء «الورشة» اللوحة الرخامية التاريخية على مدخله. تفسّخت وانكسرت. أين هي اليوم؟ «لم تعد موجودة»!
قبل سنوات قال البعض إن العلم اللبناني الأول الذي رفع هناك، أخذه أصحاب البيت معهم إلى كندا، عندما هاجروا قبل أكثر من 30 عاماً، لكن جهاد الحلبي ينفي هذه «الإشاعة». هل ثمّة من بإمكانه أن يُثبت أو يُنكر؟ في صدر البيت اليوم لوحة، فيها علم لبناني مهترئ، بالكاد بقي شكله، يقول صاحب البيت إنه العلم الذي رفع صباح الأحد في 19 تشرين الثاني عام 1943.
بندقية «الشهيد الوحيد» معلقة في جدارية البنادق وسط «بيت الاستقلال». إلى جانبها بنادق الوزراء المحاصرين، إضافة إلى رشاشات الذين قادوا حملة الدفاع عن البلدة. وحده أبو شهلا كان يحمل مسدساً من نوع «البكر». أصبح اليوم «خردة» يتوسط إحدى الجداريات. بعض هذه الأسلحة صناعة ألمانية، وأخرى «شغل» بريطاني، كما يقول الحلبي. منها ما كان يمتلكه بعض المزارعين ومنها ما «وصل في ليل». لولا وصول هذه الأسلحة المتطورة، لربما كان كل شيء قد تغيّر، ولأصبح أعضاء حكومة بشامون إلى جانب رفاقهم في قلعة راشيا. من أين أتت هذه الأسلحة؟ الجواب: اسألوا الجنرال سبيرز. بريطانيا «تزكزك» فرنسا هنا، ثم تراضيها هناك، وفرنسا تلعب هنا وهناك، ولبنان كان ولا زال بيدقاً في «لعبة الأمم».