ليس سهلاً على الإطلاق الدمج بين حدثين كبيرين، حدث غياب سعيد عقل شاعرًا عظيمًا، وآخر مختلف وهو الاعتداء على الجيش اللبنانيّ في جرود رأس بعلبك. كثيرون ممن شاركوا في مأتمه المهيب، واستعادوه بين الدموع الراجية كلمة أو قصيدة حبّ لا تزال نابضة في شراييننا وعقولنا وكتبنا وتاريخنا، عادوا ليصدموا باستكمال الاعتداء على جيش شاءه سعيد عقل، قلب لبنان ومجده، وهو عنده مدى للتقديس، ذلك أنّ شهادة الدم مدى للتقديس.
شيء من "لبنان العظمة" كما أحبّ سعيد عقل وصفه، احترق ليس بارتحال شاعرنا من البقاء إلى الخلود، فالخلود لا يحرق أرضًا أغناها وغنّى لها، بل هو رحم للفرح والرجاء الدائم وإنعاش لذاكرتنا، ولكن باستكمال المؤامرة عليه وعلى جيشه، ولسان حالنا يردّد مع الشاعر الراحل:
"بل سنبقى، ويبقى فوق صخرته لبنان، قهار من ما غيرهم قهروا
وقال من خطر نمضي الى خطر ما هم؟ نحن خلقنا بيتنا الخطر"
لبنان مضى ويمضي من خطر إلى خطر. ترى أذلك هو القدر، قدر التاريخ ولعنة "سيزيف" تلاحقه، أو أنّ اللبنانيين لم يعودوا جزءًا من هذا الكيان، فتوجّعت عظامه وارتجف هيكله، وتحوّل اللبنانيون إلى مجموعة شعوب مبعثرة لا تحسن صياغة خطاب الوجود الرّاني إلى المستقبل؟
الفراغ المهيمن على مؤسّساته ومنه التمديد الذي أكّد على ضرورته مجلس دستوريّ أمسى بقراره مجلسًا سياسيًّا، قد يكون نتيجة للعواصف الهوجاء الهابّة في محيطه، وجزءًا من حراك إقليميّ-دوليّ وعربيّ، ينتظر التسوية النهائية ورسوخها، فيبنى عليها المقتضى ويدنو الفراغ نحو النهاية بالدعوة إلى انتخابات رئاسيّة، وما الانتخابات سوى مفردة صغيرة في هذا الصراع الكبير. وتتجّه بعض الرؤى إلى الاعتقاد بأنّ نجاح التفاوض بين الأميركيين والإيرانيين والذي لم يتحوّل إلى اتفاق، بحسب توصيف الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني، ستكون له كلمة الفصل في هذا الاتجاه.
لكنّ السؤال الذي تطرحه معظم الأوساط المراقبة ما هو دور اللبنانيين في قرار عائد جذرًا لهم، وما هو تحديدًا موقع المسيحيين والطائفة المارونيّة في استحقاق يخصّها، والانقسام العموديّ في وسطها يجب أن يخضّها، وتاليًا، ينبغي أن يحضّها للمضيّ إلى ميثاق داخليّ يحدّد آفاق هذا الاستحقاق ومعاييره بالتنوّع الموضوعيّ، وليس بالانقسام العموديّ. ذلك أنّ المطالبة برئيس قويّ يملك الفاعليّة والحيثيّة، لا تخصّ رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون حصرًا، بل تخصّ أيضًا رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" سمير جعجع، حيث أنّ المبادرة التي أطلقها عون أعادت الاعتبار لجعجع في قوى الرابع عشر من آذار، وهذا ما لم يبتلعه ويستسغه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ولا بقيّة هذا الفريق.
المأساة الكبرى، أنّ تلك العناوين اللاّهبة، تراكمت بصورة أفقيّة على الأرض اللبنانيّة لتبقيها في خطر وجوديّ وانكشاف امنيّ ترميها في انفجارات متداعية ومبتكرة ومطلوبة. ليس هذا الأمر في حقيقته مفاجئًا، على الرّغم من استمرار الكلام حول الاستقرار الأمنيّ المطلوب دوليًّا. فالاستقرار بحدّ ذاته يبقى هشًّا، وسيظلّ هشًّا إذا لم يقرأ اللبنانيون معنى الاعتداءات على الجيش من عرسال إلى طرابلس وصولاً إلى رأس بعلبك أمس.
الأوساط عينها عزت هذا التناقض البادي بوضوح، إلى أنّ اللبنانيين بصورة عامّة قد فقدوا مناعتهم، وظلّوا راسخين في ثقافة التلقّي والإملاءات وليس إلى ما كان يسميه سعيد عقل بفلسفة التبادع، وهي فلسفة غير محصورة بأطر ثقافيّة أو أدبيّة أو شعريّة، بل هي جزء من تكوين لبنان الروحيّ والدينيّ والسياسيّ، وهو تكوين فريد في محيطه كلّه، قام على اللقاء الصافي والعقلانيّ بين المسيحيين والمسلمين مصهورًا بقيم مشتركة يحاول كثيرون إحراقها. واستنادًا إلى تلك الرؤى طرحت تلك الأوساط تساؤلاً يجدر بالسياسيين الوقوف أمامه، ما الذي يمنع الجيش من القيام بعمليّة الحسم الجذريّة وبعضهم سمّاها بالجذوريّة لتلك القوى العابثة بلبنان شرًّا؟ لا يبدو التساؤل منسوجًا بخيوط خياليّة بل هو واقعيّ، وبقدر ما وجدت تلك الأوساط بارقة نور في نتائج المعركة في طرابلس بقدر ما انتقدت نتائج المعركة في عرسال والتي بحسب تلك الأوساط كاد يمكن تفاديها لو شاء بعضهم ذلك ووفرنا على لبنان المزيد من ضياع الوقت.
ويقول مصدر سياسيّ، لقد نحونا باتجاه خطر أمنيّ كبير رابض على تلالنا، والحسم يجب أن يكون على مستوى الخطر نفسه بالمعنى الاستراتيجيّ المحض للكلام. وعلّق بدوره على تصريح كان لوزير الداخليّة نهاد المشنوق ان أدلى به، معتبرًا أن الآتي أعظم، قائلاً: "الوزير المشنوق بتحليله قدّم قراءة رأى فيها أن لبنان لا يزال جزءًا من صراع بين خيارين: خيار أميركيّ-إيرانيّ يشاء أن يستهلك المنطقة بأسرها إلى توازن جديد يقوم على مفاهيم جديدة بوجه التنظيمات التكفيريّة المدعومة والممولّة عربيًّا وإقليميًّا، وخيار سعوديّ متنافس مع الأتراك سنيًّا، غير راغب في المطلق بتوازن جديّ قبل تسوية نهائيّة في سوريا، تقلّص من قوّة النظام في سوريا، مستخدمة لبنان وأرض لبنان بهذه العمليّة". وخلص هذا المصدر بتحليله لكلام المشنوق، بأن استخدام أرض لبنان أمنيّ بامتياز بما تمثّله تلك التنظيمات من تهديد مباشر، وبشائره لاحت من جديد في جرود رأس بعلبك بعد كشف البريطانيين لتعاون واضح بين الجنود البريطانيين والجيش اللبنانيّ، واعتقال الجيش، تاليًا، لزوجة زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي السابقة وزميلة لها، وهو بدوره سياسيّ يعنى باستمرار الفراغ في مؤسساته وتشريعه رويدًا رويدًا بدءًا من تشريع التمديد للمجلس النيابيّ، ممّا يضع لبنان أمام مستجدات أمنية متوقّعة وهي خطيرة بماهيّتها. ويختم المصدر بالاعتقاد بأنّ السلطة السياسيّة لا تملك قدرة تحصين لبنان، والخيار الوحيد المطلوب بإلحاح على المستوى السياسيّ، الحسم، والانطلاق من الحسم إلى الحوار السياسيّ غير المشروط، والذي يعيد الاعتبار للمؤسسات الدستوريّة والسياسيّة في لبنان بدءًا من رئاسة الجمهوريّة وصولاً إلى المجلس النيابيّ.
غاب سعيد عقل خلف الرؤى، شلح زنبق انكسر على ثرى بلاد تحترق، وجيش بات عرضة للانتهاكات. لقد شاءت الصدف الدمج بين هذين الحدثين، ولكن يبقى أن نحفظ من رحيل سعيد عقل*، أن لبنان جدير بالمحبّة ويستحقّها، ليتنا نعثر على كثيرين يحبون لبنان كما أحبّه سعيد. وحدها محبتنا للبنان، تنقذ لبنان.
*كثيرون على هامش غياب شاعر لبنان الكبير طرحوا سؤالاً وأجمعوا عليه: ألا يستحقّ شاعر لبنان وصاحب كتاب "لبنان إن حكى" أن يكون يوم وداعه يوم حداد رسميّ تعلنه الدولة تكريمًا لمن سكب على تراب لبنان مجد الكلمة ووشّحه ببهائها؟ ومع الاحترام الكبير لاستشهاد رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، إنّ الدولة برئيس حكومتها تعمد في كلّ سنة على إعلان الرابع عشر من شباط يوم حداد، فلماذا بخلت على سعيد عقل وصباح بيوم حداد احترامًا لما قدّما حبًّا بلبنان وعشقًا لفرادته وعظمته وجماله؟ هذا سؤال برسم رئيس الحكومة تمّام سلام ومعظم المسؤولين السياسيين.