يفكّر نبيل كثيراً قبل ذهابه الى رسّام "الوشم" من أجل الحصول على رسم جميل فوق كتفه، وهو بكامل القناعة أنّ الوشم لغة حوار بينه وبين جسده.
لكن ثمّة "خطيئة" يعتقد نبيل أنه ارتكبها في غفلة من أهله؛ ولم تُخفها الأكمام الطويلة، فأمضى ليلة خارج المنزل اتقاءً لغضب والده، بعد ان أشعلته موضة العصر غير المكرّسة، وأغوته بنقش أول وشم على جزء من جسده، حين كان لا يزال في الـ 12 من عمره. لكن نبيل لا يذكر سبباً واضحًا لهذا "الوشم"، غير أنه أراد أن يلتحق بموضة الآخرين، فيما كلّ ظنّه أن الوشم طريق إلى الحضارة والرقي. ومنذ ذلك الوقت، يقوم الشاب العشريني بممارسة رياضة كمال الأجسام، كي تبرز عضلاته، فيكون له متّسع من الجلد لأعمال التلوين.
ولا يُعتبر نبيل فرداً منعزلاً في مجتمع تغزوه ظاهرة تسمّى "الوشم". فالظاهرة تنتشر من دون أي مراعاة لقدسية الأكتاف والأذرع البشرية. وبرغم الألم الذي يُسبّبه الوشم، لا يكتفي الشباب بوشم واحد، إذ يجعلون أجسادهم مرتعاً للأوشام، أو جداراً للرسم، تملأه نقوش وعلامات متنوّعة؛ وهم في ذلك سواء، الذكور والإناث، حيث يتبنون الموضة المتسللة بنعومة وسلاسة، في الوقت الذي يقفون متحدّين العادات والتقاليد وأعراف المجتمع، الذي لا ينظر إلى الوشم نظرة ارتياح البتة.
لكن الأوشام المنحوتة على الأجساد الشبابية تبدو كلوحات ملتصقة بذواتهم لتمنحهم بطاقة تعريف من نوع خاصّ، يراها بعض الشباب مجرّد موضة، لا ضرورة للشعور بالحرج منها، فيما يراها آخرون سبباً للندم، لأنها النزوة التي كلفتهم الكثير في وقت لاحق.
يؤكد يوسف زريق، ملك التاتو، "كما يحلو للرفاق مناداته"، أن لكلّ وشم على جسده سببًا مختلفًا دعاه لاعتماده. إذ بعض الأوشام كان رغبة في إظهار تغيير يلفت نظر الجنس الآخر، وبعضها الآخر كانت رسوماً لذكريات ذات أثر إيجابي، فيما الباقي ذو دلالات ترمز إلى معتقداته الدينية"، رافضاً أن "يكون قد انتابه الندم، برغم اعترافه بأن المشكلة الأساسية في الوشم تمثل في أن الإنسان يتغيّر فكراً ورغبات وأحلام، جراء نضجه وتغيّر الظروف من حوله. ويصبح الوشم مدعاة للسخط عند اختفاء الدافع الرئيسي له، وهو ما لا نحسبه عندما نكون صغار السن".
شغف الشباب في اختيار شكل الرسم يختلف من شخص إلى آخر، وهي رغبات تنبع من الميل إلى التبعية، التي تكون في الكثير من الأحيان تمثّلاً بالمشاهير، حتى لو كان العمل وشماً مخالفاً لعادات الجماعة وتقاليدها، وبسبب الرغبة في إظهار الجرأة، والاستقلالية والاستثنائية. ونتيجة ذلك، يكون استقطاب الانتباه وخوض تحدّ اجتماعيّ، حتى لو أفقد "الوشم" المرء فرصة عمل.
ومن الملاحظ بالتأكيد أن استعمال الوشم انتشر بين الشباب في السنوات الأخيرة، بعد أن كان حكراً على فئة يُنظر إليها على أنها "من المنحرفين"، لا بل بات الوشم يُلوّن أجساد تلامذة المدارس والجامعات.
ويكشف الدكتور في علم الاجتماع عبدالله نجم أن "الوشم عالم واسع، تتداخل فيه التجارة والدين والمعتقدات، وتختلط وتتقاطع فيه الأسباب والدوافع، من التعبير عن الحب، إلى استعراض العضلات أو التعبير عن رأي أو موقف سياسي أو اجتماعي أو ديني، في أحيان كثيرة، حتى بات الجسد مسرحاً للتعبير عن آراء أصحابه؛ وكأن الفراغ القاتل وعدم الإحساس بالثقة والأمان، بالإضافة إلى عدم وجود رادع ثقافي أو شعور بقيمة الحياة، آفات تجعل من التوشيم أمراً ملائماً لجذب الأنظار عبر كلمات أو رسومات تحمل دلالات خاصّة بهم".
ويضيف نجم في حديث إلى "النشرة" أن "الوشم لا يعكس حضارتنا ولا تخلّفنا، لأن مفهوم الحضارة والتخلف لا يكون على مستوى الفرد، بل على مستوى الجماعة"، التوشيم اليوم هو عملية تقليد، وأحد أساليب التعبير عن الأمور المكنونة داخل الشخص، ولفت للنظر"، ويُردف: "الوشم يُعبّر عن تقليد اجتماعيّ ما، وليس بالضرورة أن يكون جهلاً، وأما تقليد الآخر من دون وعي فهو تخلّف فكريّ".
ورداً على سؤال عمّا إذا كانت ظاهرة الوشم تعكس عدوانيّة الفرد أو المجتمع، يقول نجم: إن "علم الاجتماع ينظر إلى طبيعة الرسم، فالفتاة التي ترسم وردة على جسدها، وتفعل ذلك بداعي الإغراء، ليست فتاة عدائية، بعكس وشم الحيّة على سبيل المثال لا الحصر الذي يعكس عدائية".
ويشدد طبيب الجلد الدكتور طاهر حرز على أن "الوشم لا يُسبّب مشاكل جلدية خطيرة، كما يُشاع، سوى شيء من الالتهاب الجلديّ مكان الوشم، إذا كانت آلة التوشيم غير مطهّرة بالشكل المطلوب، إذ تنتقل الميكروبات إلى الجلد". ويتابع: "قد تنقل آلات التوشيم القذرة بعض الأمراض المعدية مثل الإيدز".
ويُشير حرز عبر "النشرة" إلى أن "بعض الأجسام قد تتحسّس من الوشم لفترة ما؛ وفي أحيان أخرى، ترفضها بعضها، فيُصبح مكان الوشم نتوءات جلدية ومناظر قبيحة"، موضحاً بأنه "إذا تم الالتزام بمعايير النظافة في الآلات واستخدام الشاش وموادّ التعقيم؛ فذلك يضمن عدم التأثير في صحة الزبون"، مسجلا بعض النقاط الإيجابية للوشم، حيث بإمكانه إخفاء بعض الحروق الجلدية والعيوب الخلقية"، مؤكداً أنه إذا رغب الزبون في إزالة الوشم، فهناك طرق مختلفة، منها إعادة تلوين واستعمال الليزر لإزالة الوشم، بالرغم من التكلفة النسبية".
ويبقى السؤال هل الوشم مجاراة للحضارة ومسار ترف؟ أم أنه لعنة تُطاردنا وتخلف وجهل نتيجة صراعات نفسية وفكرية بين الماضي المظلم والواقع المرير؟!