«رزق الله على أيامك يا ترامواي بيروت». رحل إبراهيم مرعشلي وهو يُغنّيها، شوهد مرّة يدندنها أمام مقهى في شارع الحمرا، فسقى الله أيامه هو وأيام التراموي قبله. ذاكرة بيروت عالقة في تلك العربات الكهربائية، التي صنعت المدينة، كما عرفناها، وما أيامها الغابرة تلك إلا التي قال الآباء والأمهات عنها، وما زالوا يقولون، لأبنائهم: «الله يبعتلكم أيام حلوة مثل يلي عشناها»

يقف إبراهيم، الفتى ابن السنوات العشر، أمام بيته في منطقة الباشورة، منتظراً مرور «الترامواي». يركض خلفه، يتعلّق بمؤخرته، ويجول معه مجاناً في بيروت وأسواقها القديمة. نحن في خمسينيات القرن الماضي. إنها حقبة «الترامواي». كبر الفتى الآن، أصبح لديه أحفاد، لكن «زاروب الحرامية» ما زال في رأسه طفلاً لم يكبر. كثُر الحديث أخيراً عن «الترامواي» في وسائل الإعلام، فعاد كثيرون بالذاكرة، ممن عاشوا تلك الحقبة، ومفتاح حنينهم تلك الآلة، وسيلة النقل الوادعة، التي انقرضت وطوت صفحتها الأيام.

نصف قرن على ذكرياته، ينبشها إبراهيم الآن، بلهفة المشتاق إلى رؤية «الموستكتير» الذي كان يطارده كلما «تعمشق» بمؤخرة «الترام». كرّ وفرّ يعيشها الفتيان مع ذلك الموظف، الذي يدور على الزبائن للتثبت من بطاقة الركوب، وهو، وإن بدا لقبه أجنبياً، سيكون غالباً من الفقراء الذين نزحوا من الأرياف إلى بيروت. عندما يصبح «موستكتير» في مصلحة النقل الكهربائي، فهذا يعني، بحسب الأدبيات الشعبية لتلك الحقبة، أن «أمّه داعيتله».

شبّ إبراهيم، أصبح عشرينياً، وقد حفظ بيروت العتيقة. أصبح له مع كل شارع فيها، قطعه «الترامواي» أو مرّ بجانبه، ذكريات. هنا سوق الطويلة، حيث غازل فتاة لأوّل مرة، بعد نزولها من العربة ومعها أختها. كانت «البيئة المحافظة» لا تزال محافظة على رصيد لا بأس به. رصد اتجاهاتها. راح يطاردها، بلطف، من باب إدريس إلى سوق الصاغة، مروراً بسوق الكندرجية وخان أنطون بيك، كل مرّة في مكان، حتى حفظ خط السكّة البيروتية متراً بمتر. ما زال يحفظ أسماء تلك الشوارع والأسواق، وعند ذكر كل محطة منها يتنهّد، ثم يعدّل جلسته ليحكي ويحكي بلا توقّف. ذات مرّة تضارب مع قريب تلك الفتاة، الذي حضر برفقتها على غير المعتاد، وانتهى الأمر بهزيمة إبراهيم وفراره باتجاه ساحة البرج. دخل إلى محل «الفروج» المشوي، الذي كان يديره شقيقه الأكبر، علي، وإلى اليوم لا يزال صدى أغنية فيروز التي سمعها داخل المحل في أذنيه.

كبر الشاب الجنوبي، الهارب إلى نعيم المدينة، وتعرّف إلى شلّة من الشبّان «البيارتة». لم تكن الطائفة هويّة قاتلة بعد. ذات ركوب لـ»الترامواي» مع شلّته، حصلت عملية نشل لمحفظة صاحبه، وكان الفاعل ينتمي إلى شلّة أخرى في العربة ذاتها... واندلع التضارب بالأيدي. جرى استخدام «سكينة الكندرجية» وأخرى كانوا يُسمّونها بـ»الجارحة الانكليزية». لاحقاً لخصّوا كل تسميات هذه السكاكين بـ»الشبريّة».

في «الترامواي» كانوا يحذرون ممن ذاع صيتهم بـ»ضرّيب الشبرية».

أصبح الأمر اختصاصاً وشهرة. بعض عربات «الترامواي» كانت توصل بعربة أخرى، وعندها يصبح اسمها قاطرة ومقطورة، والواحدة منها تُعرف بـ»الفغونة». الشاب قبل نحو نصف قرن، والهرم اليوم، يلفظها «فرغونة». هكذا كانت تُلفظ بين الناس ولا مكان لإقناعه باسمها الأصلي. بالمناسبة، هو، كما كل جيله، يحذفون الألف الأولى من لفظة ترامواي، ويستبدلونها بواو، فتصبح «ترومواي».

التكحيل

فجأة، يدسّ في الحديث لفظة جديدة، من أدبيات تلك الحقبة، كانت بمثابة كلمة السر... إنها «التكحيل». عندما يخبرك أنه نجح بتكحيل تلك الفتاة، أو تلك السيّدة، فهذا يعني أنه تحرّش بها جسدياً. عندما نزل «الترامواي» إلى السير، مطلع القرن الماضي، كانت ستارة تفصل بين مقاعد النساء والرجال. لكن، وفي مرحلة لاحقة، تحديداً في حقبة الستينيات، حصل شيء من «التراخي». عرفت بيروت آنذاك موجة «تكحيل». أين سيذهب مفعول الأفلام الحديثة، وأكثر من 20 صالة سينما في بيروت، هكذا يُعلل إبراهيم ما كان يحصل. بالتأكيد، هو يتحدّث عن نفسه بطوباوية، ضد التكحيل/ التحرّش، وأنه «ضرب» أكثر من شخص بسبب ذلك. نمازحه: ألم تفعلها أنت؟ فيبتسم، ويرد المزحة: «كله كان يكحّل». يذكر مرّة أنه حضرت «فرقة الـ16» إلى ساحة البرج (الشهداء) وأوقفت «الترامواي». تلك الفرقة، التابعة لقوى الأمن الداخلية، المشهورة بالهيبة ومطاردة «الأشرار». أنزلت من «الفرغونة» بعض الشبّان من «الكحّيلة» وأوقفتهم. أحياناً كانت تأتي قوى من «شرطة المباحث» التي كان مركزها وسط بيروت، وهذه كان لها علاقات مع بعض «القبضايات» في أنحاء العاصمة، بهدف المساعدة الأمنية.

أحد أشهر هؤلاء القبضايات، الذين ارتبط اسمهم بالترامواي، عبد القادر النويري. جرى تكريمه لاحقاً من خلال إطلاق اسمه على محطة ضمن محيط البسطة. اليوم المنطقة تعرف بالنويري. أيضاً حسن يتيم (أبو عصام) كان أحد هؤلاء. هذا الذي اشتهر آنذاك بدوره كقبضاي، ولقّبه رفاقه بـ»بطل ثورة 1958». ينبش إبراهيم من ذاكرته اسماء أخرى: أحمد الأرناؤوط ومتر العقدة وكمال العسكري (أحدهم كان مرافق صائب سلام). كلّهم من «ضرّيبة» السكاكين، ولديهم سلطة شوارع، وبالتالي هم حماة خط «الترامواي» (بمعيّة الدولة).

باني بيروت

الدكتور محب شانه ساز، ومعه فريق بحثي، أطلقوا على أنفسهم اسم إنسان، أقاموا أخيراً معرضاً عن «الترامواي». قاموا بجهد جبار، بدوا فيه كمن يحل محل الدولة، المتغرّبة عن ذاتها وتاريخها، وجمعوا الصور والوثائق والخرائط. كبار السن لا يحتاجون إلى المعارض، هم أبناء الترامواي وجيله، ولكن ماذا عن الأجيال التي تسمع بتلك الكلمة ولا تعرف منها إلا أحرفها؟ هنا تأتي الانتروبولوجيا. ومن هذا الاختصاص يأتي الفريق البحثي، ليكشف عن «إنسان الترامواي» وسلوكه، والذي من دون ذلك لا يمكن فهم بيروت وروحها اجتماعياً. في الواقع، الترامواي هو باني بيروت، كما قرأنا عنها وكما وصلتنا. من العهد العثمائي إلى الانتداب الفرنسي ومن ثم الاستقلال، كان الترامواي يشق طرقات المدينة، ويصنعها. إلى هذا تشير ملاك عفيف، إحدى أعضاء الفريق، عندما تلفت النظر إلى أسفل المنشور الموزّع في المعرض: تُظهر الخرائط، كما التحقيقات الحقلية، أن الإنسان يولد ويموت كما يعيش على خط الترامواي. على هذا الخط بنيت المشافي والمدافن والمدارس والجامعات ودور السينما والمقاهي والأسواق التجاربة والدوائر الحكومية والرسمية. لكن الترامواي مات، ثمّة من قتله، وقتل معه نظم المدينة المؤسس للمسلكيات المدنية فيها، والأهم ربما، أنه قتل «منطق الحق العام».

كيف مات الترامواي؟ هو لبنان، لا جديد، كأن القصة تحصل اليوم. وزير في الدولة، قيل بأنه كان تاجر سيارات وآليات تعمل على الوقود، قرر أن يعدم العربة الكهربائية لمصلحة «صفقاته التجارية». هذا ما كان، وأدخلت السيارات بكثافة، حتى غصّت بها العاصمة، ودخلت في شيء لم تكن شوارعها تعهده من قبل: زحمة السير. حصل ذلك منتصفات ستينيات القرن الماضي. كانت تلك سُنة سيئة من ذاك الوزير، ومعه حاشيته طبعاً، وربما إلى اليوم يعاني الناس من تلك الفعلة وتبعاتها.

أثناء احتضار «الترامواي» ظهر في شوارع بيروت مخلوق جديد، كريه الشكل، اسماه الناس قبل أي أحد: «جحش الدولة». هذا الجحش تبدّلت نسخاته، أكثر من مرة، لكن النسخة الأولى كانت الأكثر بشاعة في الشكل قبل المضمون (يعمل على الوقود بعكس الترامواي الذي كان على الكهرباء من خلال أسلاك معلقة). الناس، زبائن النقل، خاصة هذا النوع من النقل، هم الأصدق في تسمياتهم الشعبية للأشياء. مات التراموي ودخل الـ»جحش»... ومنذ ذلك اليوم تعيش البلاد اسم «مسخها» الجديد بكل جدارة.