"عنايا"(1) قرية لبنانية إرتبط إسمها بإسم قديس من لبنان. شربل مخلوف(2) الذي حمل صفات كثيرة منها "حبيس عنايا"(3)، "إنسان سكران بالله"... إستحقها من خلال أعماله على الأرض. درب القداسة مع شربل بدأ باكراً واستكمل في المحبسة وإكتمل ليلة عيد الميلاد عام 1898 حين إحتفل القديس بذكرى ميلاد المخلص ليولد في الوقت نفسه في السماء.
كان "حبيس عنايا" "ناطور السماء" فأخذ من شعاع النور الالهي وتشارك به مع غيره، فكسر الحواجز الطائفية والمذهبية والإجتماعية، ونشر هذا الشعاع السماوي في كل العالم. النعمة التي حصل عليها شربل لم يتركها له وحده بل شاركها مع الجميع كما تثبت آلاف الشهادات المكدّسة في دير مار مارون-عنايا ضريح مار شربل لتشكر الله من خلال القديس على عجائبه.
عجائب مع غير معمّدين
لا ينفكّ دير مار مارون عنايا يستقبل المؤمنين الذين شفوا بشفاعة "حبيس عنايا"، فقد حصلت على يد هذا القديس منذ 23 تموز الماضي وحتى اليوم سبع وستون أعجوبة مع أشخاص من مختلف الطوائف... أبرز تلك العجائب حصلت مع الطفل عماد الدين درزي (الطفل من الطائفة الشيعية) وهو في الشهر السادس من عمره ويعاني من ثقب في قلبه وكهرباء في رأسه ومن "الفتاق". داخل جدران منزل تلك العائلة حلّت النعمة، فالتجأت الى القديس طالبة شفاعته لشفاء ولدها وهو لم يبخل عليها. فحسب ما تروي نور درزي والدة الطفل عماد فانها "وضعت توأماً في الشهر السادس من الحمل، فتوفي الأول بعد 20 يوماً أما الثاني فبقي ينازع في المستشفى ويعاني من ثقب في القلب وكهرباء في الرأس وايضاً من "الفتاق"، وكان الأطباء قد قطعوا الأمل من شفائه الى أن جاء... يوم كانت فيه جدّة الطفل تشاهد عجائب مار شربل عبر التلفاز فهرعت الى ابنها وأخبرته بما شاهدت وطلبت منه إحضار زيت من مار شربل فما كان من الأخير الا أن أحضر زيتاً من عنايا".
ويشير والد الطفل علي درزي الى أنه "أخذ بعضاً من الزيت واتجه به الى المستشفى ودهن جسم ولده رغم تأكيد الأطباء بأن ذلك قد يشكل خطراً على حياة طفله، وعاد الى المنزل". ويتابع: "بعد يومين جاءنا إتصال من الطبيب توقعنا فيه أن يبلغنا بالخبر السيء ولكن العكس هو ما حصل، فاستدعينا الى المستشفى للقاء عماد الذي شفي من ثقب القلب ومن الكهرباء في الرأس ومن "الفتاق" وعاد سليما معافى لا يحتاج الى الأوكسيجين حتى". يشكر علي درزي مار شربل على نعمه ويشدد على "ضرورة الإيمان بالله وبشفاعة هذا القديس لأن خلاصنا لن يكون الا عبرهما".
عجائب روحية
نعيش اليوم في عالم يغرق بالظلام والشهوة والأمور المادية، في عالم فارغ. هذا ما يراه ريمون ناضر الذي زار مار شربل عشرات المرات قبل أن يخاطبه الأخير في عام 1994، وترك على يده علامة تحمل أصابع القديس شربل الخمسة، وفي نفسه رضًى وقناعة وتصالحاً مع الله. يقول ناضر لـ"النشرة": "أنا لم أكن أشكو من أي علّة بل كانت حياتي صاخبة، وأبحث من خلال الأسئلة عن وجود الله، وهذا ما دفعني كي اصلي للقديس شربل، وبعد عشر سنوات أغدق عليّ بنعمه وظهر لي بطريقة إستثنائية وتغيرت حياتي بالكامل من وقتها، واصبحت اعمل في محطة "تلفزيون النور". يشرح ناضر أن "ظهورات مار شربل له مذ ذاك الوقت متكررة وفي كلّ مرّة يتحدث يشعر... بقربه من اللّه أكثر فأكثر"، ويؤكد أن "الرفاهية والجاه والأمور المادية خدعة ولا يستطيع المرء أن يحقق السلام الداخلي الذي يبحث عنه عبرهم".
"شربل أعجوبة حتى بجسده"
وفي تفاصيل حياة هذا القديس العظيم عجائب كثيرة اضاءت له الطريق الى المحبسة والى القداسة هو الذي عرف أن "لا خلاص إلا باللّه" فسعى الى أن يتألّم فكان يركع على طبق من القصب وكان يلبس "مسحاً" على جسده مصنوعاً من شعر الماعز ويلفه بشريط من "الشوك"...
قُسّمت حياة القديس شربل بطريقة عجائبيّة الى ثلاث مراحل، فدخل الدير وهو في عمر 23 سنة وقضى 23 سنة أخرى بين مرحلة الابتداء في كفيفان وكونه راهبًا بعد نذوره المؤبّدة، ليمضي رحلته الأخيرة بالزهد المؤلّفة من 23 عاماً جديدة من التأمل والصلاة حتّى الاتّحاد مع الله في محبسة القدّيسين بطرس وبولس(4). وبدأ نزاعه مع بدء تساعيّة الميلاد ليرقد بعدها ليلة عيد الميلاد عام 1898 ويبدأ رحلة القداسة المليئة بالعجائب التي لاتزال مستمرة حتى اليوم. فهو الّذي نشط في التأمّل والصلاة في حياته لم يهدأ بعد مماته فكان حاضرًا بارزًا شاهدًا على الحياة بعد الموت وعلى قيامة المسيح، فلم يردّ من قصده خائبًا لأنّه القدّيس العابر للقارات ولجميع الطوائف والمذاهب، واذا كان الموت للناس حزنًا حولّه هذا القدّيس الى شعلة فرح ليقترن عمله بتحويل عمليّة الموت الى ولادة حقيقيّة ولقاء حقيقي مع المسيح القائم من بين الأموات.
... وبعد دفنه بأربعة أشهر بدأت ألانوار تشع من قبره تحت انظار ساكني البلدات المجاورة، وهي كانت سبباً لفتح القبر، حيث وُجِدَ جثمانه طريّاً ينضح زيتاً ودمًا وماء فيما بلغ وزنه حوالي 45 كيلوغراما. وقد نَضَحَ جثمان القدّيس شربل حتى عام 1954 حوالي 84 ليتراً من الدمّ والماء وقد أُخضع لتجارب طبيّة عدّة من دون أن يتمكّن العلماء من تحديد مصدر الدم والماء والزيت "فكان شربل أعجوبة حتى بجسده". دفنت بعض أعضاء القدّيس شربل في الطبقة السفلى من دير مار مارون وسعى الآباء الى أن يكون المذبح فوق الذخيرة المأخوذة من جسده وبنيت الكنيسة الحديثة بشكل دائري... لتجمع الناس كلهم من مختلف الإتجاهات.
قُدمت دعوى تكريمه وتطويبه الى روما عام 1926 ولم تُتابع حتى سنة 1950 وقد بقي جثمان الراهب اللبناني الماروني شربل مخلوف يرشح ماء وينزف دماً الى أن خرج الدمّ من الصندوق الموضوع فيه وإخترق الصخور ووصل الى الممشى، فلاحظ رئيس الدير آنذاك فطلب هدم الحائط وفتح التابوت ليجد أن جثمان مار شربل لم يفسد او ينتن، فتوافد المؤمنون الى "عنايا"، حيث انتشر خبر فتح الضريح فضجّت المنطقة بالناس المتقاطرين من كل حدبٍ وصوب لطلب الشفاعة، ولم يبخل القدّيس بمداواة آلام الناس فكان الطبيب المداوي وحمل فرح المسيح الى قلب من أتى ولو بدافع الحشريّة والشكّ.
عجائب تخطت لبنان
وفي عنايا وفي دفء ذلك الدير الّذي يخبئ في ثنايا كل حجر صخري من حجاره حكايات لا تنضب مع مرور الزمن، يروي قيّم دير مار مارون الأب بولس مطر بعضاً من العجائب القديمة للقديس شربل. فذات مرّة كان هناك رجل أعمال يدعى مارون الجلخ من بحرصاف كان يقيم في فرنسا وكان مريضاً يملأ "الثؤلل" يديه فقصد العديد من الأطباء ولم يتمكن أحد من شفائه، ليجد العلاج في اوراق سنديان عنايا. ويشير الأب مطر الى أن "ما يهمّ مار شربل هو عدم وجود إلحاد، فزوجة مارون كانت ملحدة وضحكت حين سمعت بأن زوجها آمن بأن أوراق السنديان من محبسة مار شربل ستشفيه". ويتابع: "غلى الرجل الأوراق ووضعها على يده ليجد في اليوم الثاني أنه شفي تماماً وأن "الثؤلل" إنتقل من يده الى رجل زوجته".
ويلفت الأب مطر الى أن "المرأة تعذبت كثيراً دون أن تعرف ما هو الدواء الى أن جاءت ذات يوم وطلبت من زوجها بعضا من الأوراق التي شفته فغلتها ووضعتها على رجليها وشفيت"، ليؤكد الأب مطر أن "مار شربل فعل ما فعل ليردها الى الإيمان والتقوى".
شكل شربل لغزاً للبنانيين ولباقي شعوب العالم، وهو أثبت للكون أنه لم ولن يعجز عن القيام بالمعجزات لتقرّب الناس أكثر من الله الّذي كان محور حياته وتأملاته وصلواته وهو لم يردّ له طلبًا او شفاعة، ولكن وكما قال القديس شربل "الركيزة الأساسية تبقى الإيمان والإقتداء بالمسيح".
وللتذكير، فان الصلاة لا يجب أن تكون فقط في أوقات الشدّة، لأنّها هي وسيلة التواصل المستمر بيينا وبين الله، هكذا كان شربل يخاطب الخالق وهكذا يوصينا أن نفعل.
(1)"عنّايا" لفظة سريانية فسّرها البعض بمعنى المرتّل والمرنّم أو جوق المتعبّدين أو النسّاك. كانت في السابق مزرعة من مزارع بلاد جبيل، إنتقل إسمها إلى الدّير لمّا ابتاع الرهبان فيها أرضًا وشرعوا بتشييد دير عليها. إنتهى العمل في بناء القسم الأوّل من الدّير سنة 1828 وهي سنة ولادة مار شربل.
(2)القديس شربل من مواليد بقاعكفرا-شمال لبنان 8 أيار 1828 واسمه الأساسي يوسف مخلوف.
(3)قبل وفاة القدّيس شربل بمئة سنة، سنة 1798، شرع يوسف بو رميا وداود عيسى خليفة من إهمج، في بناء دير، وذلك على تلّة رويسة عنّايا. وقد أنـهيا بناء الدير سنة 1811، وسمّيا المعبد الذي شُيِّد فوق أنقاض قديمة على اسم "تجلي الربّ". وفيما بعد حوّل البطريرك الماروني يوحنا الحلو، في 9 آب 1812، إسم شفاعة المعبد من "التجلّي" إلى الرسولين بطرس وبولس حيث تعيّد لهما الكنيسة في 29 حزيران. وعُرف المقام منذئذٍ "بدير مار بطرس وبولس" بدل "دير التجلّي".
(4)دخل القدّيس شربل المحبسة في 15 شباط 1875، أي بعد وفاة الأب الحبيس إليشاع الحرديني شقيق القديس نعمة الله الحرديني ومات فيها ليلة عيد الميلاد عام 1898. وقد مرّ على محبسة القديسين بطرس وبولس 12 حبيسًا كان آخرهم الأب الياس أبي رميا الإهمجيّ الّذي كان آخر من عاصر مار شربل. وقد تحوّلت المحبسة الى مزار عالمي بعد انتشار صيت القديس شربل.
للاطلاع على الالبومانقر هنا
تصوير تلفزيوني: علاء كنعان
تصوير فوتوغرافي: محمد سلمان