اثنان فقط صدقت رؤيتهما، وإنْ كان من المؤكد أنّ كليهما ينطلق من رؤية مختلفة تماماً عن الآخر. الأول كان اسحاق شامير رئيس وزراء الكيان «الإسرائيلي»، أثناء عقد مؤتمر مدريد في العام 1991، آنذاك صرح بأنّه سيجعل المفاوضات مع الفلسطينيين تستمر لأكثر من عشر سنوات. أما الثاني فهو الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي قال في «اتفاقات أوسلو» السيئة الصيت والذكر، إنّ كلّ بند من بنود الاتفاقات بحاجة إلى مفاوضات لوحدها.
المقبور شامير انطلق في كلامه من خلفية أنه لا يريد إعطاء الفلسطينيين أين من حقوقهم التاريخية على أرض وطنهم فلسطين. وهو أراد تدويخ الفلسطيني بالمفاوضات التي لن توصله إلى شيء، وبالتالي يتقدم «الإسرائيلي» حثيثاً في تحقيق برنامجه وفرض وقائعه على الأرض، وعلى حساب عناوين القضية الفلسطينية.
أما الرئيس الراحل حافظ الأسد فانطلق من خلفية الخشية على القضية الفلسطينية، وكلامه بمثابة تحذير قيادة منظمة التحرير آنذاك إلى أين أنتم ذاهبون. والاتفاقات التي وقعتم عليها في حديقة البيت الأبيض مع «الإسرائيليين «، وبرعاية أميركية، إنما هي تنازل وتفريط وتبديد في الحقوق الوطنية الفلسطينية. وهي أي «اتفاقات أوسلو « الموقعة عام 1993، هي المقدمة لتصفية القضية الفلسطينية بكل عناوينها.
اليوم وبعد مرور ما يزيد على عقدين من زمن «أوسلو»، تحقق ما ذهب إليه شامير عام 1991 في مؤتمر مدريد، من تدويخ للفلسطينيين الرسميين «المنظمة والسلطة» في مفاوضات عبثية عقيمة، بات من المؤكد أنّ استمرارها سيأتي على ما تبقى من القضية وعناوينها.
وفي المقلب الآخر تتحقق ما كان قد حذر ونبّه منه الرئيس الراحل حافظ الأسد. وهذا ما أقرّ به نبيل عمرو في مقالة له قبل أشهر بقوله: «لقد كان الرئيس حافظ الأسد محقاً حين قال إنّ كلّ بند ورد في أوسلو بحاجة إلى مفاوضات لوحده»، مضيفاً: «إننا لم نقبل الاستماع إلى كلامه لأننا كنا نضع خلافاتنا معه في الاعتبار». والمؤسف أنّ السلطة ومفاوضيها، والمنظمة ومن موقع «شاهد ما شافش حاجة»، لم تتعلم خلال كلّ السنوات التي أمضتها في كنف «اتفاقات أوسلو» وأخواتها. وبالتالي لم تتعلم من تجربة استئناف المفاوضات الأخيرة على مدار تسعة أشهر، برعاية الوزير كيري، وناظره مارتن أنديك، لم تحصل على شيء سوى المزيد من تبديد للحقوق، وتمكين حكومة نتنياهو من استغلال وتوظيف المفاوضات في إطلاق يدها في المزيد من عمليات الاستيطان والتهويد، وحرب عدوانية جديدة على قطاع غزة واستباحة وتهويد في القدس والمسجد الأقصى، واغتيالات واعتقالات في الضفة الفلسطينية.
السلطة وساترة عيوبها منظمة التحرير، تعيد اليوم إنتاج خطاياها السياسية والوطنية في ما تضمّنه مشروعها حول إنهاء الاحتلال، والاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، والمقدم إلى مجلس الأمن بواسطة الأردن مسؤولة المجموعة العربية في المجلس.
المشروع الذي ضجّت به الدوائر السياسية في العواصم الإقليمية والدولية، التي سارعت إلى تفحص خطوة السلطة على اعتبار أنّ التأكد من جديتها يمثل سابقة سياسية تخطوها السلطة وطبقتها السياسية، في حشر حكومة نتنياهو على المستوى الدولي، في الوقت الذي تشهد فيه العديد من البرلمانات الأوروبية اعترافات بالدولة الفلسطينية، وإنْ كانت غير ملزمة، ولكنها خطوة في الاتجاه الصحيح فرضها التحوّل في مزاج الرأي العام نحو مزيد من التأييد للقضية الفلسطينية، وكذلك تزايد سياسات الاحتلال «الإسرائيلي» القائمة على التعسّف والإجرام بحق الفلسطينيين وأرضهم ومقدساتهم وممتلكاتهم، ومشاهد المجازر خلال العدوان الأخير على قطاع غزة.
ولكن السلطة والقائمين عليها، وجرياً على عادتهم وسلوكهم السياسي بسبب عجز إرادتهم السياسية وتصدّع في المناعة الوطنية. جعلوا من هذا المشروع حقلاً للتجارب، وعُرضة للتعديلات الدولية من قبل الإدارة الأميركية التي عبّر مهندس دبلوماسيتها الوزير كيري عن عدم رضا إدارته على مشروع السلطة، وأعلن صراحة أنّ أميركا ستستخدم الفيتو ضدّ مشروع القرار، إلاّ إذا كان المشروع «عقلانياً» ويبتعد عن المحدّدات الزمنية أو في العناوين التي يحتويها، وتحت «إلاّ إذا» نضع إشارات الاستفهام والتعجب والأسئلة، وبالتالي دخول الفرنسيين على خط المشروع، معلنين أنّ لديهم مشروعهم الخاص، والذي من الواضح أنه جاء نسفاً لمشروع السلطة، وإفراغاً له من محتواه.
لكن السلطة وتحت الواقعية الكاذبة التي تعيشها وتحاول تطبيعنا بها، وفرت على الجميع من دوليين وإقليميين عناء استمرارهم في ممارسة ضغوطهم عليها، وكأنها هي «من تستدرج هذه الضغوط حتى تختبئ خلفها»، لتُقدم هي على إجراء تعديلات جذرية أفقدت المشروع العتيد من كلّ مضمون سياسي أو وطني فيه مكسب يعود على الشعب الفلسطيني وقضيته.
ومما زاد في الشكوك حول مشروع السلطة وتغييره وبما يتوافق والمعايير التي طالبت بها الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي وسواهم. أنّ فصائل منظمة التحرير دون سواها، من الجبهة الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب ورئيس المبادرة الوطنية الدكتور مصطفى البرغوثي، قد أجمعوا وفي بيانات وتصريحات لهم عن رفضهم للمشروع المقدم من قبل السلطة إلى مجلس الأمن. بل وأكثر من ذلك، وهنا الكارثة أنّ المشروع لم يتمّ اطلاع القيادة في رام الله عليه أو مناقشته بشكل مستفيض. وما تمّ تسريبه من الاجتماع بحسب وسائل الإعلام أنّ مشادة كلامية حادّة قد وقعت بين رئيس السلطة وبسام الصالحي، الأمر الذي دفع أبو مازن إلى فض الجلسة وتأجيلها إلى ما بعد عودته من زيارته إلى الجزائر.
ولعلّ ما تضمّنه المشروع من تنازلات في عناوين الحلّ النهائي، في القدس والحدود والأمن، اللاجئين وحق العودة إنما يذهب عميقاً في تبديد جديد في عناوين القضية. وهي في الأساس قد جرى ارتكاب الخطيئة في الموافقة أصلاً على تأجيلها إلى مفاوضات الحلّ النهائي بعد مرور خمس سنوات على «اتفاقات أوسلو» 1993. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المقبور إسحاق رابين قد أصرّ حينها على عدم حسم هذه العناوين وإدراجها كمنجز في الاتفاقات، من خلفية أنّ «إسرائيل» تريد مع مرور الزمن وفرض وقائعها الميدانية في الوصول إلى تصفيتها عبر تجزيئها كلّ عنوان على حدة. حيث لاحظنا أنّ المبادرة العربية التي أقرّت في قمة بيروت عام 2002 قد تحدثت عن اللاجئين وحق العودة وفق رؤية «الحلّ العادل» المتوافق عليه بين السلطة و«الإسرائيليين»، وهم بالطبع يرفضون قطعاً عودة أيّ فلسطيني إلى دياره التي شرّد منها بفعل الاغتصاب والاحتلال الصهيوني في العام 1948. واعتماد ذات النصّ في مشروع السلطة، في الأساس هو مرفوض من قبل الشعب الفلسطيني لأنه يقتنص حق شعبنا في العودة وفق القرار 194.
أما في ما يخص القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، والحديث حولها بالطريقة المعروضة في نص المشروع، على أنها عاصمة لدولتين، مما يعني إلغاء حدود المدينة وتحديداً القدس الشرقية وأحيائها القديمة. بينما السلطة والمنظمة كانتا قد أكدتا مراراً أنّ عاصمة الدولة هي القدس الشرقية. وهذا تسليم للمحتلّ على أنه سيبقى صاحب اليد الطولى في السيطرة على مدينة القدس والمقدسات فيها، لا سيما المسجد الأقصى. وهذا مما يوحي بأنّ الحديث المتداول ومنذ زمن أنّ «إسرائيل» تعمل على توسيع غلاف مدينة القدس وضمّه إلى المدينة، إنما تهدف من وراء ذلك أن تعطي الفلسطينيين المناطق الملحقة بالمدينة ليُقال إنها عاصمة الدولة الفلسطينية المفترضة، وتأمين ممرّ أمن إلى المسجد الأقصى وبقية الأماكن المقدسة لأداء عباداتهم وصلواتهم. حيث أكد نتنياهو ومعه قادة الكيان، أنّ القدس الموحدة ستبقى عاصمة «إسرائيل»، حتى الراعي الأميركي للمفاوضات وبشخص رئيسه كان قد قال أمام لجنة الشؤون «الإسرائيلية» الأميركية «إيباك»: «لن أقبل بتقسيم القدس، فهي عاصمة دولة إسرائيل الموحدة».
وحتى في تناول معضلة الاستيطان، فإنّ مشروع السلطة دعا مجلس الأمن مطالبة الطرفين بمعنى الفلسطيني و«الإسرائيلي» بالامتناع عن اتخاذ أية إجراءات أحادية غير قانونية، ومن ضمنها الأنشطة الاستيطانية، والتي من شأنها تقويض إمكانية تطبيق حلّ الدولتين. وهذا لا يمثل دعوة صريحة للاحتلال بوقف أنشطته الاستيطانية على حساب أراضي الدولة العتيدة.
وعن المياه فتح مشروع السلطة الباب أمام مفاوضات وحلول يتمّ التوافق عليها، وإلى حينه تستمر «إسرائيل» بسرقة المياه ووضع اليد عليها لصالح المستوطنات والمستوطنين. وما أورده المشروع من إصرار السلطة على خيار المفاوضات، إنما يدلل على أنّ السلطة تسقط مرة جديدة إمكانية الإفادة من أوراق القوة الفلسطينية بما فيها الانتفاضة والمقاومة، في خطوة تطمين مجانية للاحتلال أنّ عدم الالتزام والتقيّد بموجبات العملية السياسية والمفاوضات لا يعني ذهاب السلطة نحو خيارات أخرى.
واللافت في مشروع السلطة هو تضمين مقدمته مجموعة من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، ومن بينها ما هو الأخطر، القرار 181 الصادر في العام 1947 والداعي إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين «دولة يهودية» ودولة عربية والقدس تحت إشراف دولي. والسؤال: لماذا ورد القرار 181 في مقدمة المشروع؟ ألم تات «اتفاقات أوسلو» لتنسف الأسس القانونية للقرار 181، وبالتالي التأكيد على هذا القرار من شأنه فتح شهية نتنياهو و«الإسرائيليين» عموماً على الاستمرار في مطالبتهم بالاعتراف بـ«يهودية الدولة». أم أنّ السلطة قد باتت أقرب وأكثر قناعة للاعتراف بـ«يهودية الدولة» بعد أن اعترفت المنظمة بـ«إسرائيل» عام 1993.
وإلى أن يناقش مجلس الأمن مشروع السلطة، أو المشروع الفرنسي أو الفرنسي ـ البريطاني. سيبقى الجدل دائراً في أكثر من مكان أو مستوى. وبالتالي الإرباك سيّد المشهد في السلطة ومنظمة التحرير، ولا أحد بمقدوره التكهّن إلى أين ستقود بورصة التعديلات وخفض سقوف مشروع السلطة اللاهثة وراء سراب أنه بالإمكان تليين الموقف الأميركي لصالح مشروعها العقيم.
ولا نستغرب إذا ما رضخت السلطة لمطلب تأجيل مناقشة المشروع الوهم إلى ما بعد الانتخابات «الإسرائيلية» في آذار من العام المقبل، ومن ثم تشكيل الحكومة في «إسرائيل». وهكذا دواليك من التعديلات والتأجيلات، في مقابل استمرار الاحتلال بعمليات الاستيطان والتهويد التي لم تتوقف. عندها تكون إدارة الرئيس أوباما قد قاربت على الدخول في سباتها إلى حين تنظيم الانتخابات في الولايات المتحدة الأميركية.
ويبقى السؤال في ضوء تجربة «أوسلو»، التي دفع فيها الشعب الفلسطيني الثمن الأعلى والأغلى من أرض وطنه وأبنائه وممتلكاته ومقدساته ومستقبله على مدار ما يزيد على عقدين من الزمن، ما هي آليات تطبيق مشروع السلطة؟ ومن هي الجهة المخوّلة إلزام «إسرائيل» التطبيق؟ وهل ما تضمّنه المشروع من مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة برفع تقارير دورية عن سير تنفيذ المشروع يشكل الضمانة؟