منذ اللحظات الأولى للعدوان على سورية ونحن نذكّر ونتذكّر عدوان مشروع «حلف بغداد» وملحقاته وتبعاته، إذ أنّه عدوان جاء تحت مقولات كبيرة وهامة، تتحدث عن «وحدة إسلامية»، ومشروع إسلامي كبير يرعى ويحمي شؤون ومصالح أبناء المنطقة، وكان يومها يتم التقديم له على أنّ كل من يرفضه إنما هو رافض لحماية مصالح أبناء المنطقة، وبخاصة أنّ فيه ضرباً من ضروب الوحدة أو الاتحاد بين أجزاء هامة من العالم الإسلامي، والحقيقة أنّ هذا المشروع لم يكن يمكن أن يكون من دون عناصر داخلية تسانده وتسوّقه وتشرعنه وتقف إلى جانبه، ولو أنّ هذا المشروع مرّ على المنطقة لما كان أحد تحدث عن خيانات ومشاريع مصالح فضحت بالشكل الذي تم الحديث فيها وعنها بعد هزيمة المشروع أو سقوطه، لأننا نعتقد أنّ هزيمة المشروع هي التي وضّحت وكرّست الدور الكبير الاستعماري الذي كان يقوم به بعض أبناء المنطقة، وبخاصة في حديثنا عن الوطن السوري.
لا يمكن للمشاريع الكبرى أن تمر تاريخياً من غير روافع لها، ومن غير مسوّقين يحاولون تسويقها أمام الناس، ونعتقد أنّ مشاريع مرّت وكرّست وهي الآن قائمة تحت عناوين ربما تكون «وطنية» أو «دينية» ولم يتم التعامل معها كناتج استعماري صرف، وإنما تحوّلت إلى واقع غير موضوعي، لكنّه واقع نتعامل معه باعتباره شكلاً واقعياً قائماً، وبالتالي فإنّه لا يمكن أن ينصف إلا تاريخياً، أي أننا نحتاج إلى مرحلة زمنية مقبلة يستطيع التاريخ من خلالها أن يحدّد طبيعة هذه المشاريع التي تحوّلت إلى واقع في حياتنا السياسية.
لو لم ينجح مشروع مملكة «آل سعود» لكنّا نتحدث اليوم عن أنّ مشروعاً استعمارياً بريطانياً كان عابراً للمنطقة، وكان يحتاج لمتكئ وظيفيّ يشرعن له قيام دولة احتلال على مستوى المنطقة، تأخذ جزءاً من العالم العربي، ونعني بها كيان الاحتلال الصهيوني!.
وكذلك بالنسبة لمشروع «سايكس بيكو»، صحيح أنّنا نمرّ عليه اليوم مروراً رافضاً له، ناعتين إياه بالمشروع الاستعماري البغيض الذي قام بتجزئة العالم العربي، غير أنّنا في الواقع ندافع عنه باعتباره واقعاً موضوعياً وحقيقياً، مثلما مشاريع أخرى نعيشها الآن على المستوى العقائدي والديني والمذهبي والطائفي، إذ أنّ جميعنا يتحدث عن مشاريع استعمارية طائفية ومذهبية ودينية وعرقية لتجزئة المنطقة، وكثيرون منّا يعيشون هذه المشاريع بكل تفاصيلها، وهم حقيقة يرسخونها ويشرعنون وجودها ويستغلونها بغية مصالح ضيقة وآنية!.
أقول هذا الكلام والإعلام يطالعنا بـ «وثيقة تفاهم» بين أطراف من «المعارضة السورية»، تتحدث هذه الوثيقة عن «خريطة طريق» تحدد صيرورة «حل الأزمة» في سورية، حلّ الأزمة بين «الحكومة السورية والمعارضة»، إذ أنّ هذه الوثيقة تقدّم برنامج عمل سياسياً، لجهة إعادة إنتاج الدولة السورية، فهي تتحدث عن «السلطة» والتي تعني بها الفريق السياسي الوطني القائم، وتتحدث عن «المعارضة»، ولكن من الذي يحدد خريطة هذه المعارضة أو أطراف هذه المعارضة، من يقول لنا من هو معارض ومن هو ليس كذلك لا ندري، إنما جاء العنوان هكذا «معارضة»، كما أنّ جزء محاصصة للسلطة المفترضة القادمة توقفت عنده هذه الخريطة أو الوثيقة على أنّه «المجتمع المدني»، أيضاً لم يستطع أحد أن يوضح لنا من هو المجتمع المدني، من هي أطرافه؟!.
إنّ ما سميّ «بالائتلاف» اعتبر نفسه يوماً وحيداً «ممثلاً للشعب السوري»، كلّ الشعب السوري، ولم يعترف بأي «معارضة» أخرى، وادعى أنّ كل المعارضات الأخرى إنما هي معارضات وهمية تشكلت من قبل «النظام»، وهي بالتالي لا ترقى لمستوى «الثورة السورية» وأهداف وتطلعات هذه «الثورة»، وهو ما تمّ الاشتغال عليه فصلاً طويلاً من عمر العدوان على سورية، لكنّه بعد حين يتطوّر «الإتلاف» كي يكون في مواجهة الدولة وقياداتها وحيداً يمثل «المعارضة» في «جنيف 2»، لم يعترف بأي أطراف أخرى لمن أطلقوا على أنفسهم «معارضة»، فقد ذهب وحيداً إلى «جنيف 2» من أجل «استلام السلطة من النظام».
واليوم يتطوّر خطاب «الائتلاف» باتجاه أنّ هناك «طرفاً» يمكن له أن يتوافق معه على «خريطة طريق» يواجهون بها «النظام» لتخليصه السلطة، لكنها «خريطة» تتجاوز ظاهرياً «الشعب يريد إسقاط النظام»، باتجاه آخر جديد ومتطوّر ومحسَّن، وهو: «أننا نريد تفتيت الدولة»، لكن بالطريقة التي تناسب المرحلة الجديدة والحالة التي تحدّد معادلة التراجعات والانكماشات التي مُنيت بها قوى إقليمية ودولية.
لا يمكن أن يغيب عن بال أحد أبداً أنّ ما يسمى بـ «هيئة التنسيق» هي التي شرعنت لما سمي بالـ «جيش الحرّ»، واعتبرته الجيش الذي يدافع عن أولويات السوريين، وهو الذي يمثّل في الحقيقة رأس الحربة في العدوان المباشر على مؤسسات الدولة السورية، ولا يغيب عن أذهاننا أن ما سمي «بالائتلاف» إنما هو من طالب وشرعن للإدارة الأميركية أن تضرب وتقصف سورية تحت ذرائع متعددة، وعلينا ألا ننسى أيضاً أنّ أسماء من الطرفين ما زالوا يدافعون عن «جبهة النصرة»، وما زالوا يعتبرون وجود «داعش» إنما هو وجود موضوعي ومشروع لما أسموه بعناد ورفض «النظام» أن يسلّم السلطة إلى «الثوار»، وهي سابقة تاريخية لم تحصل أبداً، أن تعتب قوى سياسية تعتبر نفسها «معارضة» على دولتها ومؤسساتها أنها لم تسقط ولم تسلّم مفاتيح أبواب عاصمتها لمرتزقة الدنيا وهم يحاولون دخولها عنوة!.
نعتقد أنّ ما قدّمة «الائتلاف» مع «هيئة التنسيق» لجهة «وثيقة تفاهم»، تتحدث عن خريطة طريق «لحلّ الأزمة» في سورية، إنما هي محطة جديدة لا تستند أو تقوم على واقع موضوعي حقيقي، وإنما هي رؤى افتراضية معزولة عن مجريات وحقيقة ما يحصل في الواقع، وهي لا يمكن لها أن تحسب إلا في سياق التحولات التي أصابت مواقف قوى العدوان ذاتها، والتي نالت من مشروع العدوان أخيراً، وأخذته إلى مكان آخر تماماً.
لن نقول لهؤلاء الذين أرادوا أن يسوّقوا مشروع العدوان، وأن يكونوا أدوات في سياق تفتيت الدولة السورية، تحت عناوين ليست بعيدة عمّا رفعها الكثيرون إبان مشروع «حلف بغداد»، لن نقول لهم إلا ما قلناه منذ اللحظات الأولى، أنتم واهمون في أنّ: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وواهمون أيضاً بأنّكم قادرون على تمرير مقولتكم الملتوية: «نحن نريد تفتيت الدولة»!.