إنّه "حدث كونيّ". لقد صدقت صحيفة "فرانس أويست France Ouest" بهذا التوصيف للمجزرة التي ارتكبها الأخوان كواشي في مقرّ صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسيّة المتخصّصة بالرسوم الكاريكاتوريّة. هو حدث كونيّ بامتياز، لأنه شيبه بأحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأميركيّة، وقد أخذ العالم الغربيّ الأوروبيّ والأميركيّ إلى المنعطف الآخر من الصراع، وهو أشدّ فتكًا ومرارة في انسيابه إلى الداخل الأوروبيّ والأميركي عبر الخلايا الراقدة والتي تعمل على أسلمة الغرب بحروفيتها المغلقة والقاتلة.
لا يمكن تبسيط الحدث أو تسطيحه. فالتبسيط والتسطيح إساءة إلى دماء الضحايا الفرنسيين الاثني عشر الذين أراقوا أرض باريس بها، وهو بدوره إساءة إلى السياق السياسيّ الذي اعتبر المقدّمة التحذيريّة بل البالغة التحذير للفرنسيين من التوغّل في الحرب السوريّة بزعمهم أنّها حرب بوجه الهيمنة الديكتاتورية ومن أجل حقوق الإنسان في هذا البلد المحترق، فيما تبيّن العكس تمامًا، بل تبيّن أنّها تحالفت بصورة غير مباشرة مع الإرهاب في الحرب السوريّة، فيما سال حبر كثيف وذاب فكر حصيف، كشف في مضمونه خطورة انعكاس الحرب السوريّة على المجتمع الفرنسيّ بخاصّة والأوروبيّ بعامّة، من دون حسابات واضحة لا من قبل الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، ولا الحالي فرنسوا هولاند، الذي ذهب إلى أقصى حدود التطرّف بالحرب على سوريا، ولم يفقه بأنّ التحالف المطلق مع بعض دول الخليج لن يحميه من التطرّف لكون تلك الدول كانت ممولة لهذه الخلايا على مراحل عديدة، وداعمة لنشوء إسلام وهابيّ في فرنسا وأوروبا تحديدًا، يتمدّد شيئًا فشيئا على حساب الثقافة الفرنسيّة الحاوية لكلّ فكر راق مضيء سطع من كبار عظام، دمجوا عقولهم بالكرامة الفرنسية، لتولد فرنسا الحقيقيّة من أدبياتهم ورؤاهم، كمالارميه إلى زولا وهوغو وأندره مالرو وبول فاليري...ومن جورج بومبيدو إلى شارل ديغول وفرنسوا ميتران. وهنا يمكن الإشارة إلى نصّ قدمته منظمة تضم مسيحيي المشرق في فرنسا CHERDO إلى السلطات الفرنسيّة حذّرت فيه من تنامي قوة داعش وتصاعدها وانعكاس هذا التصاعد عينًا على مسيحيي المشرق وعلى عمق الداخل الفرنسيّ سلبًا.
وحين أدرك الفرنسيون مرام الأميركيين، وعدم رغبتهم بالانقضاض على النظام السوريّ وهو الدولة الشرعيّة المنتخبة من الشعب، تموضعوا على مضض في الحرب على "داعش"، وهي حرب حملت في طياتها مجموعة تساؤلات حول جديّتها وجوهر أهدافها. دخلوا التحالف الدوليّ على الإرهاب، في وقت متأخّر، في وقت كان الإسلاميون المتطرفون، منذ قضيّة الحجاب في إحدى المدارس الفرنسيّة من توانسة وجزائريين ومغاربة، يعيشون تراكمًا فكريًّا وعقيديًّا ضدّ الدولة الفرنسيّة، ويتعاطون معها كهدف للمواجهة على الرغم من دعمها توجّه الحركات الإسلامويّة في الانقضاض على الدولة السورية انسجامًا مع امتداد البترو-دولار، أو البترو-يورو إلى عمقها وجوهر ثقافتها. تأخّرت الدولة الفرنسيّة في القراءة الاستراتيجيّة العميقة لأهداف الإسلاميين في فرنسا كما في أوروبا. تفرّدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مع طاقمها في ألمانيا في القراءة المعمقّة فنجحت في مقاربتها للإسلاموفوبيا، وأمنّت شبكة أمان في كلّ مراحل مقاربتها، في حين أن الفرنسيين بدوا أكثر رومنسية وربّما تورّطًا في عمليّة المقاربة.
ليس سهلاّ على المشارقة بأطيافهم وتلاوينهم، بمكوناتهم ومنطلقاتهم، أن يشهدوا لمجزرة كتلك التي حصلت في قلب فرنسا، في قلب باريس. لم تعد ترسم الريشة وجوهًا معبّرة وتسكب ألوانًا منسابة، تحمل المضمون السياسيّ الناقد والحرّ، بل توجعت وانجرحت ونزفت دمًا فتحوّلت الوجوه رمادًا تحكي قصة حريّة ناضل كبار في سبيل تحقيقها من مونتسكيو إلى روسو إلى سارتر... فأمست وكما قال الرحابنة كذبًا والعدالة من كرتون.
ليس سهلاً على المشارقة المكتوين بنار الإرهاب، أن يروا سواهم يتوجعون منه، وقد بدأ الإرهاب التكفيريّ يفتك بتلك المجتمعات بجذب الشباب إلى الجهاد. واعتقد بعض الفرنسيين والأوروبيين، أنهم بالصراع في سوريا وعليها، يصدّرون الشباب الجهاديّ الأوروبيّ أو الجزائريّ والمغربيّ، فيتحررون من ثقلهم، ليستوردوا مسيحيي العراق وسوريا من أجل تأمين التوازن إلى فرنسا والمجتمعات الأوروبيّة بالمسيحيين المشارقة والعرب المهاجرين إلى هناك. غير أن هذه السياسة قد فشلت فشلاً ذريعًا وسقطت سقوطًا مريعًا. لم تقرأ الدولة الفرنسيّة منذ ساركوزي حتّى هولاند، أنّ الاستراتيجيّة القائمة في العقل التكفيري قد فاقت في بعض مضامينها قدرة السلطة الفرنسية على الامتصاص، وتلك هي الخطورة بالذات. ذلك أنّ نجاح التكفيريين باختراق الجدار الفرنسيّ سيؤمّن بالمقابل نجاح اليمين الفرنسيّ المتطرّف، فتدخل فرنسا وربما معها أوروبا، صراع المتطرفين بين اليمين المسيحيّ المتطرّف، والحركات الإسلامية التكفيريّة.
محللون كبار ينظرون بريبة فائقة إلى هذا الحدث. ويتخوّف بعضهم من استلحاق فرنسا ومعها أوروبا بركب الصراع الدينيّ والمذهبيّ. وتنطلق القراءة عند هؤلاء بأن فرنسا وبعض الدول الأوروبيّة لم تأخذ على محمل الجدّ اندراج شبابها بالتطرّف الدينيّ المتشدّد، لم تدخل في تحليل عميق، بالمعايير السياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والإنسانية، للأسباب الموجبة التي أوحت وألهمت هؤلاء بالانخراط في الجهاد. هؤلاء لو صُدِّر بعضهم إلى العمق السوري أو العراقيّ، إلاّ أنهم في الداخل الفرنسيّ أو الألمانيّ قنابل موقوتة معدّة للتفجير الداخل الأوروبيّ. ويدرك المحللون أن الثقافة الأوروبيّة ستتقيّأ هؤلاء، ولكنّ كثرة التقيّؤ وتراكمه يؤكّد على عدم قدرة الجسد على المقاومة فيسهل تمزيقه إربًا إربًا إذا لم يعالج الوضع بصورة جذريّة ومنطقيّة.
إسقاطًا لذلك، إنّ المجزرة التي ارتكبها سعيد وشريف كواشي، تلطّى مرتكباها خلف مسألة الانتقام ممن رسم ونشر الرسوم الكاريكاتوريّة التي طالت نبيّ المسلمين، استهلكا هذا العنوان وأطلّا من قلبه لتنفيذ عملهما الإرهابيّ. لكنّ حقيقة الأمر أن ارتكاب مجزرة بهذا الحجم في قلب العاصمة الفرنسيّة غير محصور بهذا الهدف، بل عملية كهذه في وضح النهار نابعة من تخطيط استراتيجيّ هادف، يتخطى عملية الانتقام للبلوغ إلى وضع فرنسا أمام معادلات جديدة. تلك المعادلات كما يراها كثيرون قد تسقط الحكومة الفرنسية، وربما سيرى هولاند نفسه محرجًا وهزيلاً غير قادر على ضبط الأمن بعد انكسار هيبة فرنسا بصورة مباشرة بالعمق الكونيّ للكلام.
لقد كان بإمكان السلطة الفرنسية تفادي هذا المأزق لو أبقت جذورها مشرقيّة بامتياز كما كانت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. إنه حدث كونيّ، بل هو زلزال حقيقيّ، ستكون له انعكاسات واضحة بدءًا من فرنسا مرورًا بأوروبا، وصولاً إلى موقع النزاع الكبير بين سوريا والعراق. النقد السياسيّ المنطلق من هذا الحدث لا يبطل تعاطف أهل القلم مع زملائهم الفرنسيين ومع الشعب الفرنسيّ ككلّ. لكن الانقضاض على صحيفة "شارلي إيبدو" بدء حقية جديدة لفرنسا، نرجو أن تملك السلطة الفرنسية القدرة على الإحاطة بها والحدّ من خسائرها ومعالجة تداعياتها، حتى لا تذهب فرنسا ومعها أوروبا إلى تمزّق عميم ورهيب.