مع إقلاع العام 2015 برزت المشاعر المختلطة من التجاذب والتدافع بين اليأس والرجاء وبين الآمال والآلام، والتساؤل الفضولي عما ستحمله السنة الجديدة من مفاجآت، وهل ستكون أفضل من التي رحلت غير مأسوف عليها عند كثيرين. وبينما كان أهل المنطقة يتسقطون المعلومات حول تمدد الإرهاب «الداعشي» وشبيهه في أرجاء المنطقة من العراق وسورية وما هو أبعد، جاء النبأ الصاعق من قلب العاصمة الفرنسية باريس، بوقوع الحادث الإرهابي المثير، والذي استهدف الأسبوعية الفرنسية الكاريكاتورية الساخرة «شارلي إيبدو»، وتمت إبادة جميع أفراد أسرة تحرير المطبوعة بسقوط اثنتي عشرة ضحية، إضافة إلى الكثير من الجرحى.
واهتزت فرنسا لهذه الكارثة التي لم تشهد لها مثيلاً منذ أكثر من أربعين سنة، كما اهتز العالم على وقع الإرهاب الذي أقدم على ارتكاب هذه المجزرة وتوجهت أصابع الاتهام إلى «جماعة من الإسلاميين المتطرفين».
وضجت فرنسا من عاصمتها باريس إلى سائر الأنحاء فيها بتظاهرات شعبية عارمة بدت فيها المشاعر الطائفية والمذهبية والعنصرية واضحة ومسيطرة على مشاعر الشعب الفرنسي من المقيمين على أرض فرنسا.
وسارع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى شاشة التلفزة، وبدت على وجهه ملامح الصدمة، مطلقاً الدعوة الأولى إلى الفرنسيين لضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية، ومتعهداً بعدم الرضوخ للضغوط أياً كانت.
وفي سعي إلى احتواء الصدمة نتيجة الانفجار الباريسي، بعض الكلام الذي يجب أن يقال بكل شفافية ومصارحة مع الذات أولاً، ثم مع الآخرين. وأحاول أن أوجز هذا الكلام في نقاط رئيسية.
أولاً: تقول المصادر الأمنية الفرنسية «إن الإرهابيين الثلاثة الذين قَتلوا بالرصاص الشرطيين الحارسين للمبنى الذي تعرض للهجوم يتمتعون بقدرة قتالية حرفية عالية المستوى». وللتدليل على ذلك يورد المصدر الأمني الفرنسي بعض تفاصيل الهجوم الإرهابي، ويقول: «إن طريقة إمساكهم بالأسلحة الملتصقة بأجسادهم، وإطلاقهم الرصاص طلقة طلقة متجنبين الرشقات، وسير تحركهم الهادئ وغير المتسرع وتنفيذهم مخططاً موضوعاً» تعني «أنهم ليسوا أشخاصاً عاديين خطر في أذهانهم تنفيذ عمل من هذا النوع». ويقول أحد الخبراء الأمنيين أن المهاجمين «تدربوا في سورية والعراق أو في مكان آخر قد يكون فرنسا نفسها».
ثانياً: في السياق نفسه الذي يشدّد على المهنية القتـالية العالية للمهاجمين، نستعيد بعض ما أوردناه فـي هذه الصفحة بالذات ومنذ ما يقرب من خمسة شـــهور، حيث تفيد معلومات بأن تنظيم «داعش» أصبح كونـــياً وعابراً للحدود والقارات، إذ كشف النقاب عن وجود مقاتلين في صفوفه ممن ينتمون إلى جنسيات أجنبية مختلفة من الشرق والغرب، وأدركت دول غـــربية ولو في وقت متأخر مدى تورط عــدد مـــن رعاياها في النشاطات العملانية والميدانية لتنظيم ما بات يعرف بالدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام ومنها فرنسا وبريطانيا مثلاً لا حصراً.
وتابعنا: «ففي باريس كشف الرئيس فرنسوا هولاند عن مشاركة عدد من الشبان الفرنسيين في القتال في سورية وبعض دول الجوار وفي طليعتها العراق، ورصدت الدوائر الأمنية الفرنسية عودة عدد منهم إلى فرنسا في الآونة الأخيرة بعدما «استقالوا» من مهامهم القتالية لأسباب مختلفة منها ضيق ذات اليد وتوقف بعض التنظيمات عن الدفع للمقاتلين. ويشكل هؤلاء قنابل موقوتة في الدول الغربية التي أتوا منها وعادوا إليها» («الحياة» 19 تموز - يوليو 2014).
ثالثاً: أردنا من استحضار هذا الكلام التشديد على قرينة أساسية تتمثل بإدراك الدول الغربية أخطار الإرهابيين، وأن بعض رؤسائها أيقن ما ينطوي عليه التنبيه إلى الكوارث الإرهابية، حيث ساد شعور لدى دول الغرب الأميركي منه والأوروبي بأن الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وتمدده مستمر أفقياً وعمودياً ولا يكتفي زعماء الغرب بمشاهدة الإرهاب التكفيري ومواجهته بعدم الوعي والإدراك لانتقال هذه الظاهرة من بلاد «المنشأ» في سورية والعراق واليمن ومناطق أخرى، إلى العالم الغربي الرحب.
هنا، تبرز المفارقة اللافتة، حيث إن بعض الدول الغربية أفسح في المجال عن قصد أو عن جهل لتنامي الحركات الإرهابية والقيام بالتدريبات اللازمة للأعمال القتالية، ثم يتوافد الكثير من الشبان (وبعض الشابات) إلى مواقع الجبهات في المنطقة العربية. وقد أظهر حادث باريس سواء بخلفياته أو تداعياته مدى التقصير الفادح من جانب الأجهزة الأمنية في كل الدول الغربية وعدم ممارسة الرقابة المشددة على مثل هذه العناصر التي تأخذ من الإرهاب فرصة أو مجالاً للانخراط في هذه المجموعات، ومن ثم العودة إلى «الوطن الأم - الجديد» الذي منح الجنسيات وجوازات السفر لهؤلاء الإرهابيين، وها هم يعودون لممارسة أدوار البطولات الزائفة، واستهداف بعض المؤسسات مرة تحت شعار الدين ومرة لممارسة العمل نظراً إلى البطالة المتفشية بكثافة في عدد من مجتمعات الدول الغربية.
وإذا كانت الأنظار كلها متجهة الآن إلى باريس موقع الحادث، فهذا يجب ألا يمنع تنبه باقي دول الغرب لحدوث أعمال مشابهة.
وفي هذا المجال تحركت بريطانيا، ولو متأخرة، عبر رئيس حكومتها ديفيد كامرون، حيث عبر بعض مساعديه عن ذهولهم وصدمتهم من المعلومات التي تحدثت عن عودة آلاف عدة من حملة الجنسية البريطانية، من الشرق الأوسط إلى لندن، والعمل على تأليف شبكات إرهابية التي من شأنها أن تزرع الرعب في سائر أرجاء المملكة المتحدة.
وحيال هذه «الصحوة» البريطانية لأخطار تنامي الحركات الإرهابية في عقر الدار البريطانية، تم توقيف عدد كبير من الشبان من الذين تأكدت إقامتهم وممارساتهم العملية في صفوف «إرهابيي الشرق الأوسط». كما عمدت السلطات البريطانية إلى مصادرة جوازات سفر كل من تأكد أنه قام بزيارة عمل إلى سورية أو العراق وعاد إلى بريطانيا.
لكن، على الدوائر البريطانية أن تدرك مدى خطورة الأخطاء التي ارتكبتها سلطاتها الأمنية بغض النظر عما يقوم به بعض الشبان من الالتحاق بتجمعات إرهابية سواء في الأوطان أو المهاجر. كذلك، لا يمكن السلطات البريطانية إلا أن توجه اللوم لنفسها والاعتراف بتقصير الأجهزة الأمنية في تعقب هؤلاء «الإرهابيين المقنعين» وذلك تحت شعار الحفاظ على الحريات الشخصية، في حين عمد كثيرون للإفادة مما تمنحهم إياه بريطانيا من تسهيلات لجهة الإقامة والتمتع بكامل مواصفات المواطنة، فيما التجارب أكدت وتؤكد استغلال هذه الجماعات القوانينَ «التسامحية» هناك، وضرورة استشعار السلطات المختصة بالأخطار القائمة سواء في عقر الدار البريطانية أو في مناطق أخرى، وضرورة مراقبة أعداد كبيرة من الرعايا الذين استغلوا تسهيلات الإقامة في بريطانيا لممارسة أقذر أنواع «المهن النضالية».
وبعد...
إن العبرة الأولى من حادث باريس هي أن الإرهاب التكفــيري أو أي نوع آخر من الإرهاب بات يقيم في قلب العالــم الغربي. وعلى الدول الغربية أن تتخذ تدابير أكثر حزماً وحسماً لمواجهته بغية تعطيل القنابل الموقوتة المقيمة في الداخل، ولم يعد يكفي زعماء هذه الدول أن يبقوا مكتوفي الأيدي وهم يتابعون ما يجري في المنطقة العربية من أعمال إرهابية مدمرة.
ولا بد من الاعتراف بأن ما أطلق عليه اسم «التحالف الدولي» لمواجهة مقاتلي «داعش» ليس ذلك التنظيم المحكم الذي يواجه أخطر التجمعات الإرهابية، ومن إعادة النظر بهذا الإجراء للتأكد من عدم جدواه وفاعليته ومن القناعة الآتية: أن الإرهاب لا وطن له وقد أصبح سلاحاً فتاكاً يجب التصدي له بكل الوسائل، لأنه بات ذلك الخطر المشترك على مختلف المجتمعات العربية والغربية على حد سواء. ولوحظ في الآونة الأخيرة صدور بعض الأحكام القضائية ضد بعض مرتكبي الأعمال الإرهابية، والتي قضت بسجن بعض الفاعلين.
ويعترف أحد القضاة في بريطانيا بأنه ليس في القوانين الوضعية ما يشير إلى العقوبة التي يجب أن تفرض على «من يمارس» الإرهاب خارج الحدود ويعود إلى البلاد.
تبقى الإشارة إلى ناحية مهمة، وهي تتمثل باقتحام الإرهابيين كل الحواجز والتدابير الأمنية، وكان هذا الأمر لافتاً في تفجير باريس حيث عبر كثيرون عن الاستغراب لكيفية اقتحامهم مبنى المجلة الفرنسية، على رغم وجود الحراسة المشددة عليها.
لقد بات الإرهاب «الحديث» مؤسسات أفراد وجماعات من النوع العابر للقارات، حيث تنشط حركات الاستيراد والتصدير في المجال الإرهابي، كأنما التعاطي مع الإرهاب والارهابيين يتم بصفتهم سلعة!
إن تفجير باريس والصدمة التي أحدثها، والاتهامات التي توجه إلى «الإسلام الأصولي» أو الإرهاب التكفيري، سمه ما شئت، يطرح مسألة في غاية الخطورة والأهمية يوجزها السؤال الآتي: ما مصير العلاقات بين الرعايا العرب والمسلمين مع الذين يعيشون ويقيمون بكثرة في العالم الغربي المترامي الأطراف. واستطراداً كيف يمكن أن يشعر المسلم بأنه يعيش مع عائلته في أجواء آمنة من دون استشعار الخوف من التيارات المتطرفة، والتي تربط بين الإسلام والإرهاب؟ وكيف يمكن التفريق بين مرتكبي الأعمال الإرهابية وسائر الرعايا، بخاصة عندما يظهر أن كثراً من ممتهني الإرهاب يحملون جنسيات البلاد التي يقيمون فيها!
إن انفجار باريس يؤكد من جديد اتجاه «الإرهاب الشرق أوسطي» نحو التدويل، وعلى الغرب أن يواجه الإرهاب ليس في عقر الدار فحسب، بل في كل مكان، وفي الطليعة الشرق الأوسط.