لا حدود للإرهاب. بل لا حدود أمامه، وهو وجد في معاركه لإبطال الحدود، فتحوّل من حالة موضعيّة مكانيّة إلى حالة كونيّة، لا يقيم وزنًا للمجتمعات ولا للاندماج الإنسانيّ بثقافاتها وتراثاتها وميراثها، فيظهر حالة انفصالية يحشر نفسه بالموت، ويذيقه لكلّ من انتمى للمسيحيّة والإسلام بليبرالية طيّبة وسمحة، لأنّ الانفصال عنده سبيل إلى القتل، تبيحه الحروفيّة(1)المتشدّدة النافية للجنس، وغير المعترفة بكلّ آخر قائم في هذه الدنيا بشقيّها الشرقيّ والغربيّ.

مسألة الإرهاب، الذي طال صحيفة شارلي إيبدو في باريس منتقمًا من الدولة الفرنسيّة، وعاد إلى طرابلس لينتقم بحسب التعريف الذي يستعمله "لأهل السنّة"، من النصيريين، أنّه أخلى الإسلام من تراثه الكليّ ومعناه الشامل الذي ذاقه المسيحيون المشارقة، كما أدركته المسيحية الغربيّة الكاثوليكيّة بمقاربات راقية في سانت إيجيديو وسواها، ليضع الإسلام في مأزق بنيويّ وجوديّ، ويدفع إلى صراع بين المسيحيين والمسلمين، وبين الشيعة والسنّة، تحت مراقبة دافعة من الصهيونيّة العالميّة، والرؤية الإسرائيليّة المغتذية من الإرهاب، ومن الحروب بين الأديان، بالعودة إلى فكر صموييل هانتنغتون وإرهاصاته وتداعياته من أوروبا الشرقيّة إلى المشرق العربيّ. وقد توطّد هذا الفكر تحديدًا بإشعال الحقد العقيديّ والتاريخيّ الدفين بين المذاهب، وهو الفتيل المعدّ للتفجير سواء بالحرب المباشرة أو بالعمليّات الجهاديّة من قبل أولئك التكفيريين.

لا يسوغ، وبهذا المعنى، تسطيح حراك التكفيريين بين الشرق والغرب، وحصره بالقراءة السياسيّة والأمنيّة اللحظويّة والمشوبة بالمنافع. فهو حراك استراتيجيّ بامتياز، حراك هادف يروم للقبض على السلطة في الكثير من المناطق والدول. لقد ألفت كتب وكتبت مقالات كثيرة قرأت عمق هذا الحراك وهدفه، وهو محصور بأسلمة أوروبا انطلاقًا من الفكر الوهابيّ المستوي على الأرائك النفطيّة في الخليج، وهو فكر حكم على الناشط السعوديّ رائف بدوي بألف جلدة، لأنه مناضل وناقد ومتحرّر من ثقافة الحروف المغلقة. وقد شاء بدوره (أيّ الفكر الوهابيّ)، أن يتحرّك بأولئك التكفيريين في المدى المشرقيّ، في سوريا ولبنان والعراق، هادفًا إلى إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، ونظام نوري مالكي في العراق، وتأليب الرؤية السياسيّة والأمنية في لبنان بعمليات انتحاريّة وجهاديّة في الضاحية الجنوبيّة وفي طرابلس وعرسال وأخيرًا في مقهيين في جبل محسن. وكلّ هذا تمّ ويتمّ بالتكافل والتضامن مع إسرائيل والمنظمات الصهيونيّة وتركيّا وبعض دول الخليج، ومن الدول الغربيّة ومنها ​فرنسا​ التي ارتدّ عليها الإرهاب عينه بسبب انخراطها في الحرب على إرهاب ساهمت بإطلاقه وإظهاره في المشرق، والدولة الفرنسيّة، هدف للقوى التكفيريّة الإسلامويّة منذ أن ظهرت قضية الحجاب والنقاب تستنهض المواجهة في فرنسا ومنها أوروبا.

وما لفت النظر خلال التظاهرة التي جمعت رؤساء دول ووزراء خارجية، احتجاجًا على الاعتداء الذي طال مقر جريدة شارلي إيبدو، وقوف جلاّد ومجرم حرب إلى جانب الضحايا. من راقب تلك التظاهرة على شاشات التلفزة إكتشف توًّا أنّ مراد هؤلاء في مكان ومراد الشعب الفرنسيّ في مكان آخر. ليس صعبًا على القارئ اكتشاف هذا البون في الرؤية الممزَّقة بين الرئيس ​فرنسوا هولاند​ وبين الناس، الذين بدأوا بتعاطفون مع اليمين المسيحيّ المتطرّف في فرنسا بوجه الهجمات التكفيريّة الإسلاميّة. وفي هذه الأثناء صدف أن التقى كاتب لبنانيّ مع زميل له فرنسي جاء بزيارة خاصّة إلى لبنان، فدار حوار عميق حول تداعيات الاعتداء على تلك الجريدة، وقد لاحظ الكاتب الفرنسيّ، أنّ هولاند في اجتماع الدول حوله حاول تعويم نفسه، خارج سياق المواجهة المطلوبة. غير ان سلوكيات التعويم المتّبعة لا تملك القدرة للقفز فوق سخط الناس وغضبهم وقرفهم من انحدار مستوى القيم واحتجابه داخل الإدارة الفرنسيّة. ذلك أنّ الفرنسيين في فرنسا يظلون مصدر السلطة، وليس العكس، وتلك إشارة مهمة إلى ديمومة الديمقراطية في فرنسا على الرغم من محاولات إظهارها هزيلة أو كرتونيّة. ثمّ تساءل هذا الكاتب وهو مستشرق يفقه التراث المشرقيّ، ويدرك خطورة الواقع السياسيّ الذي تمرّ به المنطقة والكيانات المؤسِّسة لها، عن مغزى وجود رئيس الحكومة الإسرائيلية ​بنيامين نتانياهو​ إلى جانب رؤساء الدول في باريس، وهو من اعتدى على أطفال غزّة وقانا، وموصوف بقمعه وبطشه وإجرامه، وعدم اعترافه بالحقوق الفلسطينيّة والعربيّة المهدورة. واستخلص الكاتب الفرنسيّ بأنّ وجود رؤساء الدول ووزراء الخارجيّة في باريس بهذه الطريقة، كشف هشاشة الموقف العالميّ بوجه الإرهاب ككلّ، وقد بات في قلب أوروبا. وقمّة الهشاشة برأيِ هذا الكاتب أن يشارك إرهابيّ كبير ومصدّر له بأطره التكفيريّة، وفي اتجاهاته العالميّة، في تظاهرة دوليّة كبرى، وبرأيه إنّ هذا لا يكفي، لكون أوروبا وفرنسا من خلال هذا الاعتداء قد دخلت دائرة الخطر الشديد، وتكمن تلك الخطورة بانبثاث فكر يؤدّي إلى حراك طائفيّ ومذهبيّ وعرقيّ بوجه المسلمين من جزائريين وسواهم. وحذّر من التراكم الشعبيّ في المواجهة، معتبرًا بأنّ الدولة الفرنسيّة المستمدّة سلطتها من الشعب، هي صاحبة القرار في مواجهة كل الإرهابيين، لا سيّما أن فكرهم قد اقتحم أوروبا واجتاحها، وهو يهدّد قيمها التي نهضت عليها، بجذب الشباب الأوروبيّ وتخديره وإطلاقه إلى منظماته للقتال والجهاد في سوريا والعراق. ويقول هذا الكاتب: بأن تلك الظاهرة غريبة بالكليّة عن الحضارة الأوروبيّة وهي طارئة وخطيرة في آن، ومعالجتها باتت أكثر من ضروريّة، بل تتطلب خططًا استراتيجيّة هائلة ترتبط بالدول نفسها.

... وبعد هذا التبحر العميق، نعود من شارلي إيبدو إلى جبل محسن، لنستخلص بأنّ الإرهاب لا حدود له، وهو يشاء استهلاك الساحة اللبنانيّة التي تشهد حراكًا تقاربيًّا بين معظم القوى اللاعبة على أرضها، لكونه قرأ بأن كل تقارب سياسيّ يقصيه عن الأرض والتحكّم بها، كما هو متحكم بملف العسكريين اللبنانيين. ما حصل في جبل محسن يشبه ببعض صوره ما حصل في شارلي إيبدو، مع فارق واضح بأنّ مجزرة جبل محسن تعيد الأرض اللبنانيّة في بداية هذه السنة إلى الخطاب المذهبيّ باستعمال هؤلاء لفظة أهل السنة والنصيريين، في ظلّ التفاوض الدائر بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، وفي ظلّ اعتراف أبداه داعي الإسلام الشهال بالهزيمة واستعداده للسير في الحوار، وهو من كان يستعمل عبارة أهل السنّة ونصرتهم.

الحوار الهادف هو الأساس الجوهريّ للقضاء على التيارات التكفيريّة. وإجماع اللبنانيين على الإدانة، أثبت أننا قد بدأنا نخلع ثوب الفتنة لنلبس ثوبًا جديدًا مضيئًا، يقوم على إعادة التوازن لوطن ممزّق ومدعوّ للدفاع عن قيمه ووجوده أمام إرهاب لا حدود له ويشاء العالم بلا حدود. لتبدو ثقافته الحروفيّة هي الحدود القاتلة بوجه أبناء الحياة وقيمهم الروحية والإنسانية... ولا بدّ في هذا المعطى من انتصار الحياة على الموت. إنّ اجتماع المسيحية بحسّها المشرقيّ والإسلام بوهجه القرآنيّ يقوداننا إلى بهاء الحياة وسلامها بالنصر والقيامة.

(1)الحروفيّة تعريف أطلقه السيد هاني فحص، وقد عنى به التشدّد بتطبيق الحرف الدينيّ خارج سياق الروح الثقافية والحضاريّة للنصّ الدينيّ. وجاء هذا التعريف في مطالعة حول كتابي "قراءة في فكر المطران جورج خضر، وفبه أشرت إلى ثقافة الحروف المغلقة التي أطلقتها التيارات السلفيّة والتكفيريّة.