لا يبدو أنّ في أوروبا من يريد تعلم الدرس. كل ما تقوم به الحكومات يعكس العقل الاستعماري، وبالتالي، ليس علينا سوى توقع المزيد من الإجراءات الأمنية. في فرنسا، وبقية دول أوروبا، سيفرغون عنصريتهم ضد العرب والمسلمين، مرة واحدة، وجهاراً هذه المرة. حجتهم أنهم ضحايا مجانين التكفيريين الذين يعيشون تحت عباءة هذا النظام العالمي المتوحش.
فيما علينا، نحن، أن نحني الرؤوس ونقبل الإهانات والصفعات، ثم نعتذر عن جريمة ارتكبها غيرنا. ولكي تكون الصورة مكتملة، يصار إلى اعتبار الحرية فعلاً كاملاً إذا ناسبت المصلحة الغربية. بهذا المعنى، يصبح معيباً إن لم تحجز نسختك الأخيرة من «شارلي ايبدو»، تضامناً مع ضحاياها من الصحافيين، وإقراراً بحقها في إهانة من ترغب في إهانتهم.
النقاش مع الغرب، إذا ما استمر على هذا المنوال، سيكون متعباً، والله وحده يعلم أي مصيبة ينتظرها حتى يصحو من وهم السيطرة على العالم.
الغرب المجنون سيحترق، لكنه يصرّ على
إجبارنا على تقديم فروض الطاعة
قبل عقود، كان في لبنان من يحاول إقناع اليمين، بقيادة حزب الكتائب، بعدم الذهاب بعيداً في طلب دعم خارجي لحماية مصالحه، وبأن كل قوى الأرض لن تنفع في تعديل ما يجب أن يتعدل. لكن اليمين لجأ إلى سلاح الدين والطائفية، وصار يبرر أفعاله بالخوف من سطوة الأغلبية المسلمة! حتى قيل إن كمال جنبلاط وياسر عرفات كانا يسعيان دوماً إلى طمأنة بيار الجميل بالقول: لا تخف! فكان يجيب: ليس المهم ما تقولانه. المهم ألّا أشعر أنا بالخوف!
اليوم، سيكون من الصعب إقناع الغرب بأن سياساته وحرياته وإعلامه وجامعاته وأسلوب حياته يجب أن تشهد تغييراً حقيقياً حتى تكون هناك مساواة. قرر هذا الغرب أن الأقلية من أهل الجنوب أو السُّمر تريد تخريب حياته وحضارته. ولذلك سيمنح نفسه حق القيام بكل ما يراه مناسباً لحماية مصالحه، بالتالي، يوغل في غبائه، معتقداً بأنه لا يزال قادراً على حكم العالم بأسره. وهو، في ذلك، لا يمارس الإنكار فقط، بل يصرّ على اعتبار أنه بذل الجهد الأكبر في الحياة، ما يمنحه حق السيطرة على النصيب الأوفر من ثروات الأرض، من دون أن يكون للآخرين حق نقده. اليوم، سيقول لك أبناء الغرب: أنت عربي، ومسلم، ما يعني أنك متخلف! وسيجدون بيننا، وليس بين الحكام فقط، من يقبل هذا التوصيف. وقد سمعنا كثيرين، في الأيام الماضية، من أبناء جلدتنا وثقافتنا يرددون: توقفوا عن التبرير أو الشرح أو التوضيح. نحن المسؤولون عن الجريمة!
اليوم، ثمة نشاط سياسي في كل أوروبا قائم على فكرة واحدة: من لا يقبل تصنيفنا فهو يقف في جانب المجرمين. وحتى إشعار آخر، لن يتمكن مسؤول رسمي أو دبلوماسي أو برلماني عربي أو مسلم من مناقشة أي نظير أوروبي له، ما لم يبدأ كلامه بشتم نفسه وأهله ودينه وثقافته. والغرب هذا، لن يفهم أنه يرمي الحطب في النار، غير مكترث بأن هذه النار تأكل الأخضر واليابس، والقتلة والضحايا على حد سواء. وسنواصل، في الفترة المقبلة، جمع الأخبار المتفرقة التي ترد تحت بند «أعمال جنائية فردية»، عن اعتداءات تطاول عرباً ومسلمين ومصالحهم في كل أوروبا. وإذا ما خرج النازيون الجدد وارتكبوا مجازر، فسيخرج من البيت الغربي من يبرر ذلك بأنه ردّ فعل!
المخيف في الأمر ليس ازدياد مستوى العنصرية والقهر في سلوك الغرب. أصلاً، نحن في بلاد المشرق والمغرب، لم نعرف غير هذه الحقارة على مدى مئة عام على الأقل. لكن المخيف أن الوحش الذي ربّوه بين ظهرانينا، والذي أطلّ برأسه في فرنسا، سيكون الأقوى، وسيجد له مناصرين، وسيكون لديه جدول أعمال مفتوح على جنون لم نعرفه سابقاً، في مقابل تراجع نفوذ أصحاب العقل والمنطق.
عندها، ماذا سيقول الغرب؟ هل سيقول: ها أنتم تظهرون على حقيقتكم، متخلفين أوباشاً؟ أم سيقول: صرتم مرآتي التي أحاول كسرها منذ زمن؟ أم سيخرج منه من يصرخ في وجه أهله، ويعيدهم إلى البيت؟
حتى ذلك الحين، فلنتفكّر في كل ما نتمناه أو نرغبه. لكن الحقيقة، أن الوحش العنصري الساكن في عقل الغرب سيسيطر على المشهد، ومن الغباء توقع مقابلته بالورود. إنها تباشير أفظع عملية استسقاء للدم. وهي لعبة قذرة لكل من سيكون طرفاً فيها، طوعاً أو غصباً. إنها المرحلة التي ترافق الفوضى الدموية التي نعيشها اليوم، من العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين، والتي تمهّد لمرحلة أوسع قبل أن تتحول إلى ظاهرة تسكن العالم كله.
ليثبت كل منا في مكانه، وليحفظ عقله قدر المستطاع، وليحتفظ بحقه في قول لا بصوت عالٍ، في وجه غرب مجنون سيحترق بنار حقده، وفي وجه مجانين العصر من أبناء جلدتنا... ولا شيء على الإطلاق يلزمنا بالتراجع أو الاستسلام.