منذ وقوع تفجير جبل محسن الإرهابي، تمّ نشر العديد من المقالات وإطلاق الكثير من المواقف التي تمحورت حول مسألة وجود إنتحاريّين في لبنان، مع تحديد عددهم بدقّة بشكل مُتناقض ومُتباين بين صحافي وآخر وبين سياسي وآخر. فهل يُوجد فعلاً إنتحاريّون في لبنان، وما هو عددهم الفعلي؟ وهل فعلاً جاء "الضوء الأخضر" لعمليّة سجن "رومية" بعد إعتراض إتصالات من داخل السجن لشنّ هجمات جبل محسن الغادرة؟
بالنسبة إلى الأرقام التي تُرمَى في وسائل الإعلام المختلفة بشأن عدد الإنتحاريّين الجاهزين لشنّ هجمات إرهابية في لبنان، نقلاً عن مصادر أمنيّة، فهي مُختَلقة وغير صحيحة، حيث لا يُوجد لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية الرسميّة أرقام مُحدّدة ودقيقة بعكس ما يُشاع، خاصة وأنّه لا يمكن إحصاء هذه الفئة من الأشخاص، وهي أصلاً غير محسوبة على جهة واحدة بل على العديد من الجهات والمنظّمات الإقليميّة ومن أجهزة الإستخبارات الخارجية، ولا يُمكن بالتالي نسبها إلى هيكليّة تنظيميّة واضحة ومحدّدة. لكن ما يُقلق الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة هو التقارير الواردة من أكثر من منطقة لبنانيّة ذات كثافة سُكّانية من مذهب واحد، والتي تتحدّث عن غياب غير مُفسّر ولا مُبرّر لعشرات الشُبّان (بأعمار تتراوح بين نهاية سنّ المراهقة وبداية العشرينات) عن منازلهم وعن الأماكن التي يتواجدون فيها أو يقصدونها دورياً عادة. والتفسير الوحيد لهذا الأمر هو توجّههم ربما للقتال في سوريا أو حتى العراق، أو إلى تواريهم عن الأنظار في أماكن مشبوهة للخضوع لدورات تدريبيّة محدّدة، علماً أنّ عدداً من هؤلاء الشبّان المتوارين محطّ ملاحقة بمذكّرات توقيف لإشتراكهم في جولات إقتتال داخلي، وبعضهم كان أيضاً محط متابعة إستخباريّة نتيجة تصنيفه ضمن "الإسلاميّين المتشدّدين".
وما حدث في جبل محسن أخيراً، لجهة عودة متواريَين إثنين عن الأنظار بشكل مفاجئ، لتنفيذ تفجير إرهابي مزدوج، واستخدامهما أحزمة ناسفة محشوّة بعبوات صغيرة، رفع منسوب التخوّف من سهولة تكرار هذا الأمر في غير مكان، حيث أنّ عودة أيّ من هؤلاء المُتوارين لا تتمّ عبر المعابر الشرعيّة (بالنسبة إلى الذين هم في الخارج) ولا بشكل علني بل سرّي (بالنسبة إلى الذين هم في الداخل اللبناني)، ما يصعب كشفهم وتوقيفهم قبل تنفيذهم لأيّ هجوم جديد، خصوصًا وأنّ مسألة الحصول على كيلوغرامات محدودة من المواد المتفجّرة هي أسهل بكثير من تمرير سيارات مُفخّخة بعشرات الكيلوغرامات. من هنا، يُمكن فهم الخشية الرسميّة من عمليّات إنتحاريّة مقبلة، والإجراءات الدفاعية المتخذة في أكثر من منطقة بعيداً عن الأضواء وعن البهورة الإعلامية الإستعراضيّة.
وبالنسبة إلى العمليّة الأمنية التي نُفذّت أخيراً في سجن رومية، فقد قيل إنّ سبب نجاحها يعود إلى "الإجماع الوطني حولها" وإلى "التنسيق بين الأجهزة الأمنيّة المختلفة" وإلى "إحترافية الفرق المنفّذة" وإلى "عامل المفاجأة"، إلخ... وهذه كلّها أسباب صحيحة ساهمت في الوصول إلى النتيجة الإيجابيّة المُحقّقة، علماً أنّ تفجيري جبل محسن شكّلا الشرارة التي حدّدت توقيت العمليّة الأمنيّة، حيث إعتبرت الجهات الرسميّة المعنيّة أنّ الفرصة مؤاتية للتنفيذ، لكنهما لم يكونا سبب تحضير العمليّة بحدّ عينها، باعتبار أنّ هذه الخطة الخاصة بالسجن موضوعة قبل تاريخ حصول الإنفجارين الإرهابيّين، والتجاوزات الفاضحة المتمثّلة بتواصل الموقوفين مع الخارج معروفة للأمنيّين منذ فترة طويلة أيضاً. وبالتالي، إنّ السبب الرئيس للنجاح التام للعمليّة والذي جرى إغفاله، يتمثّل في عدم قيام "الإسلاميّين المتشدّدين" بأيّ محاولات جدّية لإفشال قرار نقلهم من المبنى "باء"، باستثناء بعض الإعتراضات وأعمال الشغب المحدودة وبعض محاولات المقاومة الفردية القصيرة. وهم تصرّفوا بشكل راضخ، ليس لأنّ العمليّة الأمنية مدروسة ومنظّمة ومفاجئة وسريعة فحسب، وليس بالطبع لأنّهم من "جنس الملائكة"، بل لأنّ أحداً منهم لا يرغب بالموت برصاص القوى العسكريّة المهاجمة. فكل "الإسلاميّين المتشدّدين" في سجن رومية، لم يعودوا يرغبون بتسريع محاكماتهم أمام القضاء المختصّ، ويُراهنون حالياً على قرب إطلاقهم بصفقة مقايضة مع العسكريّين اللبنانيّين المحتجزين، وكل شخص من هؤلاء يأمل أن يرد إسمه في أيّ تسوية محتملة مستقبلاً، وهو بالتالي غير مستعدّ للتفريط بفرصة العودة إلى الحريّة قريباً!