بعد انتهاء مراسم دفن الشهيد عماد مغنية، قبل نحو 7 سنوات، اجتمعت العائلة في منزل الجدّ. ومع قليل من الهدوء، سمع الحضور سؤالاً مباشراً: من منا سيخرج غداً ليقول للجميع، للأهل والرفاق، وللعدوّ، بصوت عال: نحن لم نُقتل؟
نظر الجميع إلى مصطفى، الابن البكر للشهيد الكبير. مصطفى رفيق والده. كان إلى جانبه في كثير من الرحلات والأوقات. ربما سمع منه الكثير بما يزيد على ما سمعه بقية إخوته. لكنه لم يتأخر في إجابة واضحة: لست أنا من يصلح لهذه المهمة!
كان واضحاً، لمن بيده القرار في تلك اللحظات، أن مصطفى يرسم لنفسه الإطار الذي يحبّ، وأنه يريد أن يُعفى من هذه المهمة. التفت الجميع صوب جهاد. الشاب الصغير الذي يتوسّط مصطفى وفاطمة. عرف أن الخيارات تضيق أمامه. ربما كان أكثر استعداداً لمهمة من هذا النوع. وافق... وجرى ترتيب الخطاب والتدرب عليه. عندما اعتلى المنبر، لم يكن أحد يتوقع أن يطل على الجموع كرجل أكبر من عمره. لم يكن هادئاً فحسب. بل كان خطيباً مقنعاً بـ«إننا لم نقتل»!
من عرف الشاب جهاد في تلك الفترة، عرفه صبياً شقياً. يحظى بتسامح الأهل، ولكنه يخضع لرقابة عين حنونة، إنما حازمة. تلك العين التي تجعله في موقع الملاحق من قبل الآخرين. كان مصطفى يستمر في الابتعاد عن الأضواء أكثر. بينما كان جهاد الذي وقع عليه الاختيار بالتصدي لمرحلة ما بعد «الانكشاف على الضوء» يركض هنا وهناك، ملازماً فاطمة التي وجدت نفسها، فجاة، تقوم بدور الشاهدة على عصر أبيها.
أشياء كثيرة تفرض نفسها كقانون على هذه العائلة. عيون العدوّ تطاردها من دون توقف. فيها من الشهداء مقدار ما فيها من الصبر والاستعداد لما هو أكثر. يكفي الاستماع إلى أم عماد، والنظر في وجه الحاج فايز، حتى تتعرف إلى عنوان حكاية لم تُكتب بعد، وصار جهاد فصلاً فيها.
الشاب الحيوي، دفعته لحظة الخروج إلى الضوء نحو اختبارات مكثّفة في أبواب كثيرة. مع الوقت، لم يكن ممكناً قمع الاندفاعة التي تقوده إلى التطوّع لأدوار كثيرة. المسألة، هنا، لا تتعلق، فقط، بكونه ابن «قائد الانتصارين»، بل لأنه يحصل على فرصة إثبات الذات في مواجهة متطلبات صعبة. كان جهاد يسعى إلى انتزاع صفة الوريث الشرعي لمسيرة لا يحتاج من ينتمي إليها، لمن يشرح له أن الجائزة الكبرى فيها، هي الموت شهيداً.
على مرتفع يقرّبه من الله، عاش «ابو عيسى» حياة الجبل. لم يملّ من السير فيه، صعوداً ونزولاً، فخطّط لان يكون منزله قبالته، كأنه حارسه الابدي، من زاوية ينظر منها الى البعيد. يخفيه كرسي صغير، تحت سنديانة، تشبه لكل الاشجار التي اخفته كل الوقت عن عيون العدو.
جيل بأكمله من المقاومين الاوائل تعلم معه «ابو عيسى» احرف المقاومة الاولى. وجيل ثان سار خلفه متقدماً المسير لمطاردة العدو في أرض الجنوب. وجيل ثالث رافقه في رحلة حماية المقاومة من اعداء الداخل المتصلين بعدو الخارج الاول.
حكاية «ابو عيسى»، مع الجبل ومع المقاومة، طويلة جداً. مرت سنوات على انغراسه في ارضها، ورحلته طالت الى اكثر مما توقع. وُلد من اب سوري وام لبنانية عاش معها حياة بلدتها واهلها. الى أن كانت لحظة، قل هي صدفة او هي قواعد محفورة في زاوية ضيقة من العقل او حكمة الهية، دفعته، بعد جولات في لبنان والعراق وسوريا، الى حيث كان استشهاده، كما رغب، على ايدي الصهاينة الذين طاردهم، حتى سقط شهيدا في أرض الآباء والأجداد.
صفاء، ام عيسى، المرأة الصاحية بكل حواسها تعرفه جيدا. تعرف انه منذ تعرف اليها، ظل يتركها في ليل او غروب، ويهرب الى عشيقته الدائمة والمعلنة. لم تكن صفاء اشطر من المقاومة في اغوائه. خافت عليه كثيراً. اما هو، فكان يضحك، ويدرّبها على ملاقاته شهيدا.
لم تكن صفاء لتقوى على عشقه الحقيقي. وكأن الله ارادها مستعدة ليوم منتظر. فصارت تحلم به شهيداً، وتقيم له مجالس العزاء، ولو في نومها. حتى انها تدرّبت على رثائه. لكنها أفاقت، في لحظة، مع نقرة في القلب، لتحمله هي، وفي بطنها طفله الذي شهد كيف تعلن الام - الرفيقة نهاية مشوار العشق الدائم، وبما يليق بعاشقين، ثم تزفّه عريسا للمقاومة.