18 قتيلاً و82 جريحًا، هي "حصيلة" إحياء الذكرى الرابعة لـ"ثورة 25 يناير" في مصر، ثورة قامت ضدّ نظامٍ قمعي ديكتاتوري، رافعة شعارات "الحرية والعدالة والكرامة"، ثورة رفضت التسلط والاستبداد، و"قدّست" الحريات التي لطالما كانت غائبة عن "المحروسة"..
لا، لم تغيّر ثورة مصر "التاريخية" و"المباركة" وجه مصر كما يحلو للبعض أن يقول، ولعلّ مشهد "ذكرى الثورة" الحافل بالدماء والفوضى كافٍ للدلالة على مشهدٍ سوداوي هو أبعد ما يكون عن "التغيير" الذي حلم به شبابٌ أراد الحياة يومًا، ولم يستجب له القدر..
ربيع تحوّل إلى خريف..
لا يشعر المراقب العام لأحداث مصر أنّ الثورة، التي شكّلت باكورة ما سُمّي بـ"الربيع العربي"، حققت أيّ تغييرٍ على الأرض، لا التغيير المنشود من قبل "شباب الثورة" ولا غيره.
يكفي استعراض أحداث السنوات الأربع الماضية التي حفلت بها الساحة المصرية للاستنتاج بأنّ "الربيع" تحوّل إلى "خريفٍ" على أرض مصر، ذلك أنّ التجربة برهنت أنّ كلّ الوقائع التي حصلت لم تكن تليق بـ"العرس الديمقراطي" الذي تحقق يوم "انتفض" شبابٌ على نظامٍ لا يشكّك أحدٌ بأنه كان قمعيًا وديكتاتوريًا، ولم تكن على قدر "التضحيات" التي قدّمها بعض من ارتضى الموت في سبيل كرامة ظنّ أنّ دماءه قادرة على إعادتها.
هكذا، تكاد الرزنامة المصرية للسنوات الأربع الماضية تخلو من يومٍ هادئٍ واحدٍ، بل إنّ عدد الضحايا كان يزداد يومًا بعد آخر، بين مظاهراتٍ ومظاهراتٍ مضادة، وانفجاراتٍ بالجملة، وعملياتٍ أمنية لا تنتهي، كلّ ذلك بالتوازي مع وقائع سياسية لا توحي بـ"الفرج"، ووقائع قضائية "مُحبِطة" للكثيرين بين المحاكمات "المسيّسة"، كما يصفها كثيرون، وصولاً إلى التعاطي مع "رموز" النظام المخلوع، الذين باتوا قاب قوسين أو أدنى من "الحرية".
حين فُرِشت طريق العسكر بالورد..
بالعودة إلى الوقائع، يشير المراقبون إلى أنّ البلاد دخلت مباشرة بعد عزل الرئيس حسني مبارك ونظامه، في مخاضٍ عسير، لم يزده استلام الإسلاميين للحكم، بموجب العملية الديمقراطية، إلا صعوبة وقساوة. يقول البعض أنّ هؤلاء "انقلبوا" على "الثورة" سريعًا، بل أطاحوا بكلّ "إنجازاتها" دفعة واحدة. تتعدّد التفسيرات والتبريرات لذلك، من كونهم لا يمتلكون الخبرة، أو من "الطمع" الذي يتملّك كلّ حاكمٍ، فلا يعود يكتفي بالشيء القليل، كونه يتوهّم أنه قادرٌ على جعل كلّ شيءٍ بيده.
لم يتاخر الشارع كثيرًا قبل أن "يثور" من جديد، هذه المرّة، على "الإخوان المسلمين"، الذين "استولوا" على الحكم، "ثورة" أنتجت بعد أن ركب موجها الجيش المصري بقيادة وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي، فتحوّل الأخير في نظر الشعب إلى "المُنقذ"، "مُنقِذٍ" فُرشت له الطريق إلى الرئاسة بـ"الورد" من دون أن يصطدم ولو بـ"شوكة واحدة"، ليصبح "حكم العسكر" أمرًا واقعًا من جديد، وبـ"تفويض شعبي" هذه المرّة، حيث لم يتوانَ بعض الثوار على وضع "جزمة العسكر" فوق رؤوسهم، في مفارقةٍ غريبة عجيبة، وإن كان عنوانها التهليل للنظام الجديد.
تغيير في الشكل لا أكثر..
منذ وصول السيسي إلى الرئاسة في مصر، مسترجعًا "أمجاد" النسب المئوية التسعينية التي كان "يحتكرها" الرئيس حسني مبارك، شعر البعض أنّ "بريق الثورة" فُقِد في مكانٍ ما. لكنّ "الوهج" الذي حافظ عليه الرئيس العتيد بقي فوق كلّ اعتبارٍ، فبقيت الاعتراضات عليها محصورة بـ"الإسلاميين"، الذين وُضعت كلّ قياداتهم في السجون وصدرت بحقهم أحكامٌ وصل الكثير منها لحدّ الإعدام.
وبعيدًا عن الأحداث الأمنية التي تحصل كلّ يوم تقريبًا في مختلف المناطق المصرية، أتت أحداث "ذكرى الثورة" لتضع الإصبع على الجرح بشكل لا يقبل التأويل أو الاستفهام، فـ"القبضة الأمنية" التي لطالما عُرف بها نظام مبارك لا تزال هي هي، "قبضة" لم تتردّد القوى الأمنية بممارستها ضدّ المتظاهرين في أنحاء متفرّقة من البلاد، ليسقط الضحايا بالعشرات، مسترجعين شريط "25 يناير" بالصوت والصورة.
أكثر من ذلك، فإنّ "ملابسات" إحياء الذكرى لا تقلّ دلالاتٍ. "شباب الثورة" لم يعد قادرًا على التحرّك كيفما يشاء. اضطر بعض الداعين لمظاهرات لعدم تحديد مواعيدها ومواقعها علنًا، بل إنّ المتظاهرين، بمختلف انتماءاتهم وميولهم، لم يجرؤوا على الاقتراب من الساحات الأساسية، ولا سيما منها "ميدان التحرير"، العصب الأول لثورة "25 يناير"، وكذلك "30 يونيو".
مبارك إلى الحرية؟!
ولعلّ "الضربة القاضية" التي "قصمت ظهر البعير" أتت من القضاء المصري، لا بسبب الأحكام "المشدّدة" التي صدرت عنه بحق الجماعات الإسلامية، والتي وُصِفت بـ"المسيّسة" من قبل الكثير من الخبراء القانونيين في الداخل والخارج، بل بسبب تلك الأحكام "الملطّفة" بل "الصادمة" التي بدأت تصدر بحق "رموز" نظام حسني مبارك.
هكذا، وفي مفاجأةٍ لم يتوقعها موالو النظام المخلوع أنفسهم، بات الرئيس المخلوع ونجلاه قاب قوسين أو أدنى من "الحرية"، الأمر الذي يطرح الكثير من علامات الاستفهام والدهشة في الساحة المصرية. يقول معارضو مبارك أنّ الشعب أصدر حكمه ضدّه في "25 يناير" وأنه خرج من التاريخ، كلامٌ لا يخفي أنّ الرجل يقترب من "البراءة" أكثر فأكثر.
وإذا كانت القضايا التي رُفعت ضدّ مبارك تشمل في مجمل ما تشمل قتل المتظاهرين، التحريض على القتل، إشاعة الفوضى وإحداث فراغ أمني، قضية الفيلات المشترك فيها مع رجل الأعمال حسين سالم، قضية القصور الرئاسية، قضية الكسب غير المشروع، قضية التلاعب بالبورصة، قضية اللوحات المعدنية والتربح وغسل الأموال، فإنّ حصوله على "البراءة" يثير أسئلة مشروعة، في مقدّمها: إذا كان مبارك بريئاً وكذلك نظامه، فمن المسؤول إذاً عن الدماء التي سالت في الشوارع؟ من الذي تسبّب بقتل من قتل وإصابة من أصيب وتشويه من شوّه؟ من سيأخذ بحق الشهداء الذين سقطوا؟ وهل ذهبت دماؤهم هدرًا؟
أيّ تغيير؟!
يقول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إنّ "ثورة الخامس والعشرين كانت من أجل التغيير الذي حلم به المصريون وشعلة للتقدم والتحرر"، ويضيف: "نهنئ الشعب المصري ونهنئ أنفسنا فى ذكرى الثورة التي تدفعنا إلى التحرك بقوة من أجل التغيير، والتحرك الإيجابي في كل المجالات".
ولكنّ أيّ تغيير تحقق ولا تزال دماء المصريين تسال في الشوارع دون ذنب؟ أيّ تغيير تحقق في حين لم تسلم مسيرة سلمية كانت متجهة الى ميدان التحرير لوضع أكاليل الزهور على نصب شهداء الثورة من النيران والتوقيفات؟ أيّ تغيير تحقق والرئيس المخلوع نفسه يتأهّب للخروج من زنزانته بكلّ بساطة، حاملاً بيد ورقة براءة لم يكن ليحلم بها؟
باختصار، أربع سنواتٍ مرّت على ثورة "25 يناير"، وكأنّها لم تكن، فالمشهد هو هو، بل إنّ التاريخ يكاد يعيد نفسه، في بلادٍ باتت "تترحّم" على استقرار "الزمن الغابر"..