ما أقدم عليه نتنياهو وجنرالاته من عمل عسكري أمني ضدّ حزب الله على أرض القنيطرة العربية السورية، والذي تمثل في اغتيال جبان لمجموعة من المقاومين هناك، تبيّن أنّ من بين الشهداء ضابط في الحرس الثوري الإيراني. إنما هو تكرار لتجربة من سبقوه إلى رئاسة الحكومة «الإسرائيلية»، من اسحق رابين إلى شمعون بيريز. والتي أتت جميعها في لحظات سياسية بالغة الدقة، واستجابة لحسابات داخلية في «إسرائيل».
ولا غرابة في أن يذهب نتنياهو نحو هذا السياق التصعيدي في ظلّ جملة من الأوضاع على صلة بما هو خاص وعام. بمعنى ما يخص الداخل «الإسرائيلي»، وما يتصل بملفات إقليمية والتي لا تخلو من حسابات دولية تصل إلى الولايات المتحدة الأميركية والعلاقة المتأزّمة بين رئيسها وطاقم إدارته من جانب ونتنياهو وبعض ائتلافه من جانب أخر.
ولعلّ الاتهامات من جانب فريق أوباما لنتنياهو بأنه غير وفي، على خلفية الكلمة التي سيلقيها الأخير أمام الكونغرس بدعوة رئيس مجلس النواب من الحزب الجمهوري جون باينر، ومن دون التنسيق مع إدارة أوباما، والذي اعتبرته أنه قد جرى ترتيبه من خلف ظهرها لتعميق الأزمة بين الطرفين، وقد أصدر البيت الأبيض بياناً في هذا الخصوص، أعلن فيه أنّ الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري لن يلتقيا نتنياهو خلال زيارته إلى واشنطن. ويمكن تلخيص دوافع نتنياهو وجنرالاته وبعض ائتلافه من وراء اعتداء القنيطرة بالآتي:
1 ـ قبل كلّ شيء تأتي هذه العملية في سياق التأكيد على الطبيعة العدوانية للكيان منذ اغتصابه فلسطين، والشواهد كثيرة.
2 ـ المأزق الداخلي في «إسرائيل»، وما يعانيه نتنياهو وحزبه من حالة الحصار التي تحاول العمل عليها بقية الأحزاب والكتل، وظهور الائتلافات الجديدة لخوض انتخابات «الكنيست» المقبلة في 17 آذار المقبل. وخشية نتنياهو على مستقبله السياسي على الرغم من مؤشر التحسّن الطفيف على وضعه الانتخابي. وكلّ ذلك يحصل في ظلّ العلاقة المتوترة بينه وبين الإدارة الأميركية. والتي اتهمت قبل فترة أنها تحاول التأثير في الانتخابات المقبلة.
3 ـ تعثر المسار السياسي على خط المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، والخطوة التي أقدمت عليها السلطة في توجهها إلى محكمة الجنايات الدولية والتوقيع على ميثاق روما. وحالة الإرباك البادية على نتنياهو والكثير من القيادات السياسية والعسكرية والأمنية نتيجة لذلك، ونبرة التهديدات «الإسرائيلية» المتصاعدة في وجه السلطة، تأكيد على هذا الإرباك والتوجّس.
4 ـ ارتفاع منسوب التفاؤل الأميركي والغربي، في ما يتعلق بمفاوضات الملف النووي الإيراني. ولطالما عمل نتنياهو وحلفاؤه الجدد في الواقع الإقليمي على تخريب المفاوضات أو تعطيلها قدر المستطاع. وخطاب نتنياهو مطلع آذار المقبل أمام الكونغرس يرمي من جملة أهدافه إلى تحريض أعضاء الكونغرس على فرض عقوبات جديدة على إيران، الأمر الذي يرفضه أوباما ويؤكد عزمه استخدام «الفيتو» الرئاسي ضدّ أية عقوبات جديدة بحق إيران، ويأمل نتنياهو أن يحرج طهران ويدفعها إلى التنازل، لا سيما أنّ بين من استهدفتهم الغارة ضابط إيراني كبير.
5 ـ الدخول المباشر على خط خلط الأوراق من جديد في لبنان بعد الانفراجات التي أفضت إلى بدء حوارات بين حزب الله وتيار المستقبل، بما يتيح تخفيف الاحتقان في الشارع، والذي أسهم في النجاحات التي حققتها الأجهزة الأمنية اللبنانية في وضع يدها على عدد من الخلايا النائمة، والدخول إلى ما يسمّى «جناح الإسلاميين» في سجن روميه، بعد تفجيري جبل محسن، وبالتالي الإجماع اللبناني، على إدانة الاغتيال «الإسرائيلي» لعناصر حزب الله في القنيطرة.
6 ـ القول لحليفه الاستراتيجي الولايات المتحدة الأميركية إنّ التزاماتك في الإبقاء على تفوّقنا العسكري، وعلى أمننا لم يعد كافياً، ها هي إيران وحزب الله وسّعا من حدود جبهة المواجهة معنا ليصبح الجنوب والجولان جبهة واحدة. وهذا ما ذهب إليه السيد نصر الله في حواره على شاشة «الميادين» لم يخف مسألة الجولان، والسلاح الكاسر للتوازن، وحتى أحقية محور المقاومة في الردّ على أيّ عدوان يتعرّض له أيّ من أطراف المقاومة، بمعنى أنّ الجبهة لم تعد مقتصرة على الجنوب والجولان، بل قد تصل حتى حدود إيران أو غزة إذا تعرّض إحداها لعدوان. والعملية بهذا المعنى في سياق منع تغيير قواعد اللعبة.
7 ـ إعطاء دفعة معنويات جديدة للمجموعات المسلحة في المنطقة الجنوبية من سورية، وصولاً حتى مناطق الغوطة الشرقية وحتى الغربية، التي بدا من الواضح أنّ ثمة انهيارات في جدران صفوفها، والحديث عن اختفاء بعض ما يُسمّى قيادات الصف الأول لهذه المجموعات، والهجوم الذي نفذته المجموعات المسلحة قبل أيام على مواقع الجيش اللبناني في جرود رأس بعلبك، ومن ثم عملية الجيش السوري الاستباقية في منطقة كفير يابوس القريبة من منطقة المصنع الحدودية ضدّ المجموعات المسلحة، مما يُدلل على عمق التنسيق الوثيق بين هذه المجموعات أو بعضها مع «إسرائيل»، التي تقدم الكثير من التسهيلات والدعم والمعلومات لهذه المجموعات.
8 ـ تظهير التحالف الإقليمي لبعض الدول مع الكيان بشكل ميداني. والذي تمثل فيه «إسرائيل» رأس الحربة، وهذا ما أكد عليه وزير خارجية العدو ليبرمان، بأنه قد أجرى ويجري حوارات ولقاءات مع العديد من الدول العربية. وجميعنا يذكر ما صرح به عدد من المسؤولين «الإسرائيليين»، خلال العدوان الأخير على غزة من اعترافات، أنهم ولأول مرة يذهبون إلى الحرب على قطاع غزة، ومعهم العديد من الدول العربية. والصمت الذي لفّ الدول العربية في امتناعها عن إدانة الغارة على القنيطرة يذهب ليصبّ في ما قاله هؤلاء المسؤولون «الإسرائيليون».
9 ـ محاولة التأثير على لقاءات موسكو بين الدولة السورية وعدد من معارضي الداخل والخارج. والقول لروسيا إنّ تنامي دورك في ملفات المنطقة، من سورية إلى إيران وفلسطين غير مرحب به «إسرائيلياً».
أما عن طبيعة الردّ في زمانه ومكانه، فلا يجوز في مطلق الأحوال أن نقرّر بشأنه، أو أن نؤثر بشكل عاطفي على قرارات قيادة المقاومة أو حلفائها، وإظهارهم إما أبطالاً أو خائفين أو متردّدين، وحتى بعض من يجلس خلف البحار وفي المقاهي يحاول النيل منهم أو نعتهم بتوصيفات مدانة في الشكل والمضمون. ولا يفعلها إلاّ عدو أو حاقد أو جاهل.
إذا كنا متفقين أنّ المقاومة فعل وعمل على أهداف استراتيجية، لا فعل آني أو مرحلي أو تكتيكي. فإنّ الأهداف الاستراتيجية لقوى المقاومة يجب أن تبقى الأولوية على ما سواها من محاولات الاستدراج التي يقرّرها أعدائها و»إسرائيل» في الطليعة من هؤلاء. والحسابات والأهداف الاستراتيجية يجب أن تبقى بالنسبة إلينا هي المنطلق الذي يُوجب العمل على تحقيقه. ولننتظر ما سيقوله السيد نصر الله خلال الأيام المقبلة، عن العملية الجبانة وكيفية الردّ عليها.