فعلها "حزب الله"، وضرب في العمق الإسرائيلي، وتحديدًا في مزارع شبعا المحتلة، في أول ردٍ له على عملية القنيطرة الشهيرة التي استهدفت كوادره قبل عشرة أيام.
فعلها "حزب الله"، ففاجأ "الخصوم" قبل "العدو"، أولئك الذين غيّروا بسرعة البرق خطاب "عدم الجرأة" و"العجز"، الذي صوّبوا من خلاله على الحزب الذي قالوا أنه لن يقوى على الردّ، إلى خطاب "المغامرة" و"التوريط".
فعلها "حزب الله"، رافضًا تكريس معادلة تقول أنّ الضربات الإسرائيلية يمكن أن تمرّ مرور الكرام دون ردّ، فارضًا في المقابل معادلة من نوع آخر، معادلة عنوانها "السن بالسن والعين بالعين والبادي اظلم"..
الفعل سبق القول..
لم يتأخّر ردّ "حزب الله" على الغارة الاسرائيلية التي استهدفته في القنيطرة، غارة انتهج الحزب بعدها سياسة "الصمت"، التي كان يفترض أن يكسرها الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله يوم الجمعة المقبل، فإذا بـ"الفعل" يسبق "القول" عن سابق تصوّر وتصميم، من مزارع شبعا المحتلّة.
العملية نوعية، يجزم المراقبون، لكنّهم لا يتأخرون في الإشارة إلى أنّها لم تكن مفاجئة، بل متوقعة، إلا ممّن توهّموا أو أقنعوا أنفسهم بأنّ الحزب أضاع البوصلة بالمطلق. برأي هؤلاء، فإنّ الاتجاه للردّ كان واضحًا منذ اليوم الأول لغارة القنيطرة الشهيرة. لم يكن يمكن للصمت أن يُفهَم بغير ذلك، تمامًا كما "ترحيل" كلمة السيد نصرالله حتى الثلاثين من الشهر الجاري.
أكثر من ذلك، يرى المراقبون أنّ ما حصل في الجولان قبل يومٍ واحدٍ من عملية شبعا لم يكن سوى "جسّ نبض"، "جسّ نبض" كان كافياً ووافيًا لفضح "الرعب الإسرائيلي". صاروخان لا قيمة لهما فعلا فعلهما في جيشٍ متأهّبٍ منذ أكثر من أسبوع. سريعًا، استنفر هذا الجيش. أخلى المنطقة من السيّاح والمستوطنين، وكاد يعلنها منطقة عسكرية.
كلّ ذلك كان كافيًا، يقول المراقبون، ليحسم الحزب قراره. توقع الإسرائيلي أن تأتيه الضربة من الجولان، وراهن على أنّ الحزب لن يفعلها من قلب لبنان، فخاب رهانه كالعادة، وهنا بيت القصيد.
رسائلٌ بالجملة..
بصمتٍ، تعامل الحزب مع غارة القنيطرة التي ضربته في الصميم. بصمتٍ، شيّع شهداءه وتقبّل التبريكات. بصمتٍ، تعامل مع كلّ التعليقات، الشامتة منها والمتضامنة، والتي أتته من كلّ حدبٍ وصوب. وبصمتٍ أيضًا، أعدّ سيناريو الردّ، الذي يُقال بأنه لم يكتمل فصولاً، بدليل أنّ بيان إعلان المسؤولية حمل الرقم واحد، وفي ذلك إشارة لا تخفى على أحد بأنّ المزيد قد يأتي تباعًا.
من هنا، يمكن الحديث عن رسائل متعدّدة حملها ردّ المقاومة بجزئه الأول. هو أولاً كرّس مقولة أنّ "حزب الله" لا يسكت على دماء مجاهديه، وأنّ ثأره لهم آتٍ لا محالة، مهما طال الزمن. ولعلّ هذه الرسالة الأساسية هي التي حفّزت الحزب للإسراع في الردّ، من دون انتظار ما يُسمّى بـ"التوقيت والزمانين المناسبين"، وهي العبارة التي فقدت وهجها لكثرة ما استُخدِمت من قبل البعض دون أن يأتي أيّ توقيتٍ وأيّ زمانٍ يمكن أن يوصفا بـ"المناسبين".
أما الرسالة الثانية، فتنطلق من "رمزية" مكان العملية في مزارع شبعا، بحيث حرص "حزب الله" على ضرب عصفورين بحجرٍ واحدٍ على هذا الصعيد، فهو من جهة أعاد تسليط الضوء على أرضٍ لبنانية محتلة تكاد تصبح "منسيّة" بعدما "شطبها" كثيرون من المعادلة، في حين أنّ البيان الوزاري للحكومات المتعاقبة، وبينها الحكومة الحالية، شرّع كلّ السبل لاسترجاعها بما فيها العمل المقاوم، وهو من جهةٍ ثانية أكّد أنّه هو من يحدّد قواعد اللعبة لا الإسرائيلي، بمعنى أنه لم ينجرّ لقواعد الاشتباك التي ظنّ الاسرائيلي أنه غيّرها يوم ضرب في الجولان، وعدم الرد في المقابل من الجانب الإسرائيلي لا يعني سوى أنّ الأخير فهم اللعبة.
"كنتُ أعلم.."
الإسرائيلي فهم اللعبة، إذًا، وإن كان يتأرجح في إظهار ذلك، "حفظًا لماء الوجه"، يرى مراقبون، في حين أنّ الرسالة لم تصل لبعض الجهات الداخلية في لبنان.
يكفي استعراض بعض المواقف المحلية التي صدرت تزامنًا أو بُعيد حصول العملية، وقبل نضوجها واتضاحها، للوصول إلى هذه الخلاصة. بعضهم تسرّع بالحديث عن مرحلة اضطراب ستشهدها البلاد، في حين ذهب البعض الآخر ليعضّ على الجرح، معربًا عن مخاوفه من النزعة الإسرائيلية العدوانية، والتي تتحدّث التجارب العديدة عن مرارتها. وبين هؤلاء، قفز بعضٌ ثالثٌ إلى المواجهة لم يتوانَ عن العودة إلى خطاب "المغامرة"، متهمًا "حزب الله" بأنه "يورّط لبنان خدمة لأجنداتٍ إقليمية معروفة"، ولعلّ المفارقة هي أنّ هذا البعض ليس سوى من كان قبل ساعاتٍ قليلة "يشمت" من حزبٍ "لم ولن يردّ"، لأنه لم يعد يعرف العمل المقاوم سوى بـ"النظريات".
صحيحٌ أنّ كلّ الاحتمالات تبقى واردة ومفتوحة، لكنّ الحرب الشاملة تبقى مستبعَدة حتى إشعارٍ آخر. يقول المراقبون أنّ خطاب "لو كنت أعلم" الذي سارع كثيرون لاسترجاعه، باعتبار أنّ السيد نصرالله سيضطر لترداده بعد أيام، عندما تكون الحرب قد وقعت والأوان قد فات، يمكن أن يُستبدَل هذه المرّة بـ"كنتُ أعلم". ويوضحون بأنّ الحزب ما كان ليقدم على هذا العمل لو لم يكن واثقًا بنسبةٍ كبيرةٍ بأنّه لن يفضي إلى حربٍ شاملة لا يريدها الإسرائيلي في هذه المرحلة، وهي ليست من مصلحته أصلاً.
بيانٌ يتيم؟!
العملية محصورة في إطار "حق الرد"، ولكن إذا قرّر الإسرائيلي غير ذلك، فإنّ المقاومة بالمرصاد وهي على أتمّ الجهوزية، يقول المراقبون ختامًا.
من هنا، فإنّ "البيان رقم واحد" قد لا يبقى يتيمًا، بل قد تُلحَق به بياناتٌ بالجملة، يعرف الإسرائيلي قبل غيره، أنّ "مفاجآتها" قد تطاله في العمق، خصوصًا إذا ما فُتِح الصراع وسقطت "المحرّمات" غير مأسوفٍ عليها..