يتذمّر الكثير من الموظفين من العواصف وغزارة الأمطار لا بل من أتفه الأشياء وأبسطها، حتى وإن كانوا يعملون في مكاتب مجهّزة بالتدفئة وكلّ أساليب الراحة. إلا أنّ كلمة حق تُقال أنّ الشتاء لا يشابه فصلا آخر بالقساوة على الباعة المتجولين في بيروت وضواحيها، هؤلاء الذين يسيرون من شارع الى آخر يبحثون عن شخص يشتري من بضائعهم، ليبتسموا رغم المصاعب التي يواجهونها في طقس يصعب على الشجر الصمود بوجه عواصفه.
"الفقير معلق في حبال الهواء"، هكذا يختصر أبو كريم بائع (العرانيس) حاله وحال الكثيرين من روّاد مهنته في العواصف الثلجية. يستيقظ كل صباح ليمارس عمله في زقاق المدينة، لا يستسلم للمطر والرياح، ولا يشتكي على الاطلاق، رغم انها السنة الاولى التي يتجول بها ويختبر العاصفة لنيل رزق يكفي قوته اليومي، بعد ان كان يعمل في الالمنيوم لسنوات عدة، لكنه نجح في امتحان مواجهتها، بعد ان شاء القدر ان يعبث به ويجعله بائعا متجولا.
ويشير ابو كريم إلى أنّ المصاعب لا تقتصر على قساوة الطقس فقط، بل أيضًا في القدرة على تحمّل الاعباء النفسية، "فنظرة الناس لنا نظرة تهميش، ويعتبرون أنّ من يتجوّل في الطرقات هو رجل بسيط لا يملك مهنة". ويضيف ممازحًا: "هذه هي سيارتي الرباعية الدفع"، مشيرًا بيده إلى العربة التي تحتوي على قارورة الغاز وحلّة الفول والذرة.
بدوره يقول جميل بائع الصحف، الذي يرزم صحفه في كيس نايلون ويلصق بعضها على حائط مسقوف، "إن حياتي مزيج من عدم الاستقرار وخيبة الامل، فالسمة الاساسية لحال الباعة المتجولين هي التعب والخوف من المجهول".
ويشدد على أن "المطر يتباهى بغزارته ويتمايل غير آبه برزقنا الذي نجنيه من بيع الصحف والذي لا يتجاوز العشرة آلاف ليرة، وبانقطاعه سينقطع رزق عائلتي المكونة من زوجة وطفلين".
بائعون يفرّون من نعمة المطر، وكل منهم يبذل ما بوسعه هربا من بطش الرياح، ومن لا يملك مظلة مطرية لبس غطاء نايلون صانعا منه سترة واقية له ولبضائعه، تحاشيا من ان تقع فريسة للمطر. وتعلو صرخاتهم في كل مرة تمر فيها سيارة وتغسل بضائعهم وملابسهم من برك المياه وسط الشارع، ثم يلجأون الى الأبنية القريبة منهم محتمين تحت سقفها من نعمة الله عند ذروتها، وينتظرون ان يتوقف رفيق الفلاحين عن عداوته والمشارك في قطع الرزق عن عائلاتهم، لكن من دون جدوى لأن الغيوم تغني فرحا، فيما هم يندبون قهرا، يراقبون السماء بنظرات استعطاف طالبين الرحمة، لكنها تواصل المطر من غيومها السوداء بما يبشرهم بيوم معاناة جديد تفرضه عليهم الطبيعة.
نقمة العواصف أرخت بثقلها على أحمد وهو شاب صغير لم يتجاوز عمره الثلاثين، يبيع القهوة على عربة صممها لتكون بمنأى عن المطر، والتي لا تنفع ولا تضر في تفسير معنى الوقاية، يحدق بالسيارات والمارة لعله يجد المنقذ والجالب لرزقه، مسجلا استيائه من فصل الشتاء "المطر مأساة خاصة اذا استمر هطوله لأيام عدة وبشكل متواصل"، ثم يرتشف سيجارته بغضب والحصرة ترافقه، ويستشهد بقول احد الشعراء "أنا الغريق فما خوفي من البلل"، ولا يخفي ان "المعاناة لا يقتصر تأثيرها على صعوبة التنقل وسلامة العربة من الخراب فقط، انما تصبح الطرقات موقعا لتجمع المياه والنفايات والوحل، وبوجود هذا المشهد يمتنع الزبائن عن المجيء تفاديا للمرور بالصورة المأساوية هذه".
يتبين أثناء التجول في الشوارع الرئيسة والفرعية لبيروت وضواحيها، ان هناك من هم ينعمون برغد الحياة، ومنهم من يفترش الأرض ويلتحف السماء ويجعل من شوارع المدينة محطة لحياته. معاناة تكاد تشكل مأساة إنسانية لرجال خدموا عائلاتهم بظروف قاهرة، فلم يجدوا لنسيان مرارة اوضاعهم الاجتماعية سوى سيجارة ودخان بين شفتي وتعلو حاجبي كل واحد منهم.