بعد أيامٍ قليلة، تحلّ الذكرى السادسة والثلاثين لانتصار "الثورة الإسلامية" في إيران(1)، ثورة وضعت حدًا لحكم الشاه، ذلك الحكم المستبدّ والديكتاتوري، لتستبدله بما تحبّذ الدبلوماسية الإيرانية تسميته بـ"الحكم الإلهي الشعبي".
كثيرة هي التحديات التي واجهت إيران منذ الثورة، وأكثر منها هي التحديات التي تواجهها اليوم، هي التي انضمّت رسميًا إلى نادي "الدول النووية"، رغم الحصار المفروض عليها منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ولكنّها تحدّياتٌ عرفت كيف تستغلّها، محوّلة إياها إلى "فرص"، كلمة السرّ فيها تكاد تكون "الاكتفاء الذاتي"..
اكتفاء ذاتي وأكثر!
هو الاكتفاء الذاتي إذا، معطوفًا على الإرادة الثابتة والجهود العلميّة، ما جعل إيران بمصاف الدول الكبرى، وما جعل القوى العظمى تسعى للجلوس معها على طاولة واحدة، تحت عنوان المفاوضات، مفاوضات يصرّ الإيرانيون على أنّها جدية، وبمثابة نقطة تحول..
هو الاكتفاء الذاتي الذي يسعى الإيرانيون لـ"ترجمته" عمليًا على كلّ المستويات، وخصوصًا العلمية منها، ولعلّ القمر الصناعي "فجر" الذي أطلقته إيران مؤخرًا(2) هو خير دليلٍ على ذلك، علمًا أنّ هذا القمر ليس الأول الذي ترسله إيران إلى الفضاء الخارجي.
وإذا كان هذا الإنجاز يأتي مع استمرار وتيرة الحصار الشامل المفروض على الجمهورية الإسلامية، فإنّ اللافت فيه أنّه تحقق اعتماداً على الطاقات والخبرات الوطنية من دون الاعتماد على أيّ تقنية مستوردة من الخارج، كما أنه وفي دلالةٍ رمزيةٍ، في ظلّ موجة التطرّف التي تجتاح المنطقة اليوم والتشويه الذي يطال الدين الإسلامي، أرسل مع شعار "الله أكبر" كما زُيّن بشعار "محمد رسول الله".
دولة نووية..
برأي كثيرين، فإنّ الملف النووي والتقدّم الذي حققته إيران على صعيده هو "بيت القصيد" في كلّ ما تعرّضت له الجمهورية الإسلامية طيلة العقود الثلاثة الماضية، سواء لجهة "العقوبات" أو "الإغراءات" في المقابل.
هنا، يصرّ الإيرانيون على ما يسمّونه بـ"تصحيح الصورة". هم لا ينكرون أنّ هذا الملف يُعَدّ من أهمّ المكتسبات والمنجزات التي تحققت بُعيد "الثورة"، ولكنّهم يعتبرون أنّ "التشويه" طاله وصولاً إلى "الحكم على النوايا" عن سابق تصوّر وتصميم. وفي هذا السياق، يلفتون إلى أنّ مسألة النووي ليس لها علاقة فقط بالشؤون العسكرية، كما أنّ خدماتها لا تنحصر في المجال الطبي، ويوضحون أنّ مسألة إنتاج الطاقة على سبيل المثال تعتبر من الأمور الصغيرة المرتبطة بهذا الشأن.
المهمّ في مسألة تخصيب اليورانيوم "لأغراضٍ سلمية"، وهي العبارة التي يحرص الدبلوماسيون الإيرانيون على تكرارها نظرًا لدلالاتها، هو أنّ إيران وضعت الضوابط الخاصة بها منذ اللحظة الأولى في الملف النووي بعيدًا عن المجال العسكري، علمًا أنّ هناك تأثيرات إيجابية للطاقة النووية في مختلف مناحي الحياة وحتى في الحياة الاجتماعية للناس.
بعد كلّ المخاض الذي شهدته، استطاعت إيران إذًا أن تنتمي إلى نادي الدول النووية في نهاية المطاف، إلا أنّ هناك اختلافاً جوهريًا، يقول المسؤولون الإيرانيون، بين الجمهورية الإسلامية والدول الأخرى التي تمتلك الطاقة النووية، اختلاف يكمن في كون تلك الدول تحتكر هذا العلم، في حين أنّ إيران تضع كلّ مكتسباتها على طبق من فضّة لكلّ حلفائها وأصدقائها حول العالم.
إنجازاتٌ على كلّ المستويات..
"كلّ شعوب المنطقة لها الحق بالاستفادة من هذه الإنجازات"، يقول أحد الدبلوماسيين الإيرانيين، لافتاً إلى أنّ هذه الإنجازات تشمل مختلف المستويات، ذلك أنّ ما أسس له مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني أنه أراد أن يرسي قواعد للتطور في مختلف مناحي الحياة. ولا يتردّد الدبلوماسي المذكور في إعطاء الأمثلة عن هذه الإنجازات، بدءًا من التطور الذي أصاب المجتمع الإيراني في مجال الجامعات، حيث بلغت إيران مرحلة الاكتفاء الذاتي بنسبة مئة بالمئة في مختلف مجالات التخصّص العلمي، كما أنّ الجامعات الإيرانية باتت تستقبل الطلبة الجامعيين من خارج إيران، دون أن ننسى أنّ العديد من الجامعات الغربية تجري علاقات تعاون وبحث مشترك مع الجامعات في إيران.
أكثر من ذلك، يقول الدبلوماسي أنّ إيران وصلت مرحلة الاكتفاء الذاتي من الناحية الطبية، وهي تقوم بتصدير المعدات إلى الخارج، وكذلك حققت إنجازات مهمة في مجال الخلايا الجذعية. ومن المجالات التي حققت فيها الجمهورية الإسلامية أيضًا إنجازات فريدة من نوعها المجال الزراعي، حيث استحدثت غابة في منطقة صحراوية قاحلة وسط إيران، وكذلك مجال إنتاج السيارات والآليات، حيث استطاعت أن تؤمن قسمًا كبيراً من حاجاتها الداخلية، بل إنّ بعض السيارات الإيرانية باتت تضاهي المنتجات الغربية المشابهة لها. وفي مجال إنتاج الطائرات استطاعت إيران أن تحقق إنجازات مقبولة، وبات باستطاعة إيران أن تنتج طائرات صغيرة تعتبر شخصية وترفيهية.
وإذا كانت الإنجازات التي تحققت في مجال صناعة السفن مقبولة، وكذلك في مجال النفط والغاز، حيث استطاعت إيران أن تحقق اكتفاء ذاتياً بنسبة 50 بالمئة، فإنّ ما يحرص المسؤولون الإيرانيون على الإشارة إليه هو أنّ كلّ هذه الإنجازات تحقّقت في "عزّ" الحرب والحصار الذي فُرض على إيران ما بعد الثورة، وعلى وقع التهديدات ومحاولات الاغتيال التي كان يتعرّض لها العلماء الإيرانيون.
لا شرقية ولا غربية..
في السياسة، تقول الدبلوماسية الإيرانية أنّ أهمّ إنجاز تحقق كان رفع منسوب الوعي السياسي لدى المجتمع الإيراني، بحيث أصبحت التجربة الإيرانية في مدى المشاركة الشعبية في الاستحقاقات السياسية فريدة من نوعها، علماً أنّ الشعب هو الذي يختار نوابه وممثليه بصورة مباشرة وكذلك رئيس جمهوريته، كما أنّ اخيتار البلديات والمجالس الاختيارية على مستوى المدن أيضًا يتمّ بالاقتراع المباشر.
وإذا كان الكثير يُقال أيضًا عن التسامح الديني والانفتاح تجاه الأقليات التي تتمتع بالعيش الحرّ والكريم في إيران، وتمارس طقوسها من دون مضايقة من أحد، فإنّ تطور المجتمع الإيراني عزّز حضور المرأة في المجتمع، وقد دخلت هذه المرأة إلى البرلمان وتبوّأت مناصب مهمّة، بعد أن كان يُنظَر إليها في السابق وكأنها درجة ثانية في المجتمع، علمًا أنّ المجال مفتوح أمامها لتخوض العمل السياسي والاجتماعي بكافة أوجهه.
أبعد من كلّ ذلك، يعتبر الإيرانيون أنّ الإنجاز الأساسي يبقى من خلال الشعار الذي ترفعه الجمهورية الإسلامية، ألا وهو "لا شرقية ولا غربية"، والذي يدلّ على عدم انحيازها في سياساتها لا للمحاور الشرقية ولا للمحاور الغربية، وبالتالي على استقلاليتها في اتخاذ قراراتها وعدم ارتهانها لأيّ قطب. الرسالة الأساسية من وراء ذلك، بحسب الإيرانيين، هي أنّه بإمكان أيّ دولة أن تتصدّى لاستقواء الخارج، وبالتالي فإنّ بإمكانها أن تقول لا وأن تتصدى للهيمنة الخارجية ولا سيما الغربية وأن تصل للنتيجة المرجوة.
أبواب إيران مفتوحة..
برأي الدبلوماسية الإيرانية، فإنّ شعوب المنطقة بحاجة إلى "صحوة نووية". هي تصرّ على أنّ المبادئ التي قامت عليها الثورة لا تزال هي هي، وهي وحدها التي تتحكم بالمواقف الإيرانية من كلّ المستجدات، وهي لن تتغيّر سواء حصل الاتفاق مع الغرب أم لم يحصل.
"أبواب إيران مفتوحة لمن يرغب"، يقول الإيرانيون لكلّ سائليهم، عشية ذكرى "الثورة"، "ثورة" يسعون لتكريسها نهجًا تقتدي به شعوب المنطقة أولاً وأخيرًا..
(1) أطاحت مظاهرات شعبية في إيران عام 1979 بنظام الشاه رضا بهلوي لتحل محله جمهورية إسلامية يقودها رجال الدين. وقد شكّلت هذه الثورة، التي قادها الإمام روح الله الخميني، مفاجأة على مسرح الأحداث الدولية، وذلك من حيث السرعة التي حدث بها التغيير العميق، وكذلك الدور القيادي للدين فيه.
(2) يُعتبر القمر الصناعي "فجر" رابع قمر ترسله ايران الى الفضاء وتم إرساله على متن الصاروخ "سفير فجر" القادر على حمل الأقمار الصناعية الى ما وراء المجال الجوي وتم وضعه على ارتفاع 250 إلى 450 كيلومترا في مدار الارض. ويزن القمر الصناعي فجر 50 كيلوغراما ومهمته الرصد وإرسال الصور بدقة فائقة.