جريمة بشعة وفظيعة هي تلك التي ارتكبتها عصابة "داعش" الإرهابية بحقّ الطيّار الأردني معاذ الكساسبة، لكنّها لا تقلّ بشاعة ولا فظاعة عن تلك الجرائم التي ارتكبتها "داعش" كما "شريكتها" في الإرهاب، "جبهة النصرة"، بحق العسكريين اللبنانيين الرهائن لديها منذ أشهر طويلة.
بيد أنّ ما يُخشى أن يكون أبشع وأفظع من كلّ هذه الجرائم الوحشية وغير الإنسانية ليس سوى طريقة تعامل السلطات اللبنانية مع ملفٍ بهذه الحساسية والخطورة، ولعلّ مقارنة الأداء الذي أظهرته الحكومة اللبنانية مع أداء نظيرتها الأردنية كافية للتدليل على أنّ هناك خللاً كبيرًا يتوجّب وضع حدّ له قبل فوات الأوان..
ردّ حاسم وسريع..
فعلتها الحكومة الأردنية إذًا. لم تمرّ ساعات على انتشار خبر الجريمة البربرية التي ارتكبتها "داعش" بإعدامها الطيار معاذ الكساسبة، حتى كان الردّ حاضرًا وجاهزًا، سياسيًا وميدانيًا.
هكذا، وقبل بزوغ الفجر التالي للجريمة، نفذت الحكومة الأردنية وعيدها، فأعدمت دون تردّد اثنين من "الداعشيين" الموقوفين لديها، والذين كان الإرهابيون يفاوضون لإطلاقهم، وهما ساجدة الريشاوي وزياد الكربولي، في وقتٍ لم تتأخر في الإعلان عن ردّ "قاسٍ ومزلزل" على القتلة المجرمين، تزامنًا مع تكثيف عملياتها في إطار التحالف الدولي ضدّ "داعش"، وصولاً حتى قيام طيرانها الجوي بغارات ضدّ مواقع التنظيم الإرهابي.
ولم يقتصر الردّ الأردني على الجانب الميداني والعسكري، إذ كانت السلطات جاهزة أيضًا لاحتواء ردود الفعل، ولفت في هذا السياق كيف عملت السلطات الأردنية على رصّ صفوف الشعب، وعلى تجاوز محاولة الإرهابيين زرع الشقاق بينهم، إذ تحركت الدولة من أعلى هرمها إلى أصغر مسؤول فيها من أجل إبداء الاهتمام بالقضية، وهذا ما حرم الإرهابيين من ميزة الاستفادة من جريمتهم، وخلخلة الصفوف وخلق القلاقل بين الأردنيين.
دولة تنفذ أوامر الإرهابيين!
وإذا كانت الخطوات الأردنية "الجريئة" لاقت سريعًا ردود فعلٍ متفاوتة، خصوصًا ممّن لجأوا إلى "التنظير"، منطلقين من شعار أنّ "الدولة" ليست "ميليشيا" وبالتالي فإنّ "منطق" الثأر لا يمكن أن ينطبق عليها، فهي أثارت في الوقت عينه "نقمة" لدى الكثير من اللبنانيين الذين "حلموا" في يوم من الأيام بأن تحذو دولتهم هذا "الحذو"، خصوصًا بعدما أعدمت الجماعات الإرهابيّة أربعة من جنود الجيش اللبناني الأبطال، ببرودة أعصاب منقطعة النظير.
هنا، يتذكر اللبنانيون كيف سارعت ما تسمّى بـ"الدولة" لنفي "الشائعات" التي تحدّثت عن نيّتها إعدام بعض موقوفيها يوم هدّد الإرهابيون بإعدام الجندي علي البزال، الذي كان للمفارقة رابع جنديّ يُعدَم دون أن تحرّك الحكومة اللبنانية ساكنًا، وهي إن حرّكت فهو لم يتعدّ حدود "الأسف" و"الإدانة" على أبعد تقدير.
ولعلّ ما يؤلم أكثر هو أنّ بعض أعضاء الحكومة، وبدل أن المطالبة بتنفيذ أحكام الإعدام الصادرة أصلاً عن القضاء اللبناني بحق الإرهابيين، لجأوا إلى الاتجاه المعاكس، حيث سعوا للضغط على القضاء لتخفيض هذه الأحكام، وذلك نزولاً عند أوامر الإرهابيين ودون أيّ ثمن في المقابل كالإفراج عن مخطوف مثلاً، أو حتى مجرّد التعهّد بعدم قتل أحد من الرهائن.
أبو مالك التلّي يأمر ووزراؤنا يستجيبون..
قد يقول قائل، في معرض الدفاع عن الدولة اللبنانية، أنّها لم تكن تستطيع أن "تخاطر" بحياة جنودها، وتنفذ أيّ حكم إعدام، باعتبار أنّ الإرهابيين قد "يثأرون" عندها بقتل من تبقى لديهم من المخطوفين، ذلك أنّ الحالة اللبنانية مختلفة عن الحالة الأردنية، لأنّ الطيار الأردني معاذ الكساسبة كان المخطوف الأردني الوحيد لدى العصابات الإرهابية.
إلا أنّ هذا المنطق بحدّ ذاته يحتمل الكثير من "الجدل"، لأنّ كثيرين يؤمنون بأنّ تنفيذ مثل هذه الأحكام وحده، أو حتى مجرّد التلويح بها، يمكن أن يردع هؤلاء "الإرهابيين" من الاستمرار بأفعالهم المشينة، بدل الهروب إلى الأمام والبكاء على الأطلال، وهو النهج الذي اعتمدته الحكومة اللبنانية، وفق منطق "ما باليد حيلة".
عمومًا، وحتى لو كانت هذه "الحجّة" مقبولة، فإنّها لا يمكن أن تبرّر أبدًا طريقة التعاطي الرسمية مع الموضوع، والتي ذهب بعض "ممثليها" إلى حدّ جعل أمير "جبهة النصرة" مثلاً أبو مالك التلّي، كأنّه هو الذي يأمر وينهي، و"تطوّع" بعض الوزراء للاستجابة لمطالبه وصولاً حتى الموافقة الصريحة والعلنية على الإفراج عن إرهابيين مسجونين محكومين، أو هم قيد المحاكمة، وبينهم إرهابيون موصوفون، اعترفوا بإعداد وتنفيذ تفجيرات في الضاحية الجنوبية لبيروت وغيرها من المناطق.
من سمح للإرهابيين بالفرار؟
وبعيدا عن المفاوضات، لم تبلُ الحكومة اللبنانية أيضًا بلاءً حسنًا في التعاطي مع هذه القضيّة الحسّاسة على الصعيد السياسي، حتى كاد موضوعٌ وطني من هذا النوع يتحوّل إلى "لغمٍ" قادرٍ على تفجير الحكومة من الداخل، بفعل اختلاف آراء أقطابها من الملف منذ البداية.
ويتذكّر اللبنانيون في هذا الإطار جيّدًا كيف أنّ القرار السياسي "المريب" هو الذي تسبّب بـ"الكارثة" من أصلها، يوم سُمِح للإرهابيين بالفرار ومعهم الجنود، دون أن يرفّ جفنٌ لأحد في هذه الدولة، وكذلك يوم تمّ تسليم أهالي المخطوفين كرهائن معنويين للخاطفين، وهو ما أدّى إلى إعطاء الخاطفين اليد العليا وباتوا يتحكمون بهؤلاء الأهالي ومن ثم بالساحة اللبنانية كلها.
وبعيدًا عن مسارعة السياسيين لرمي الكرة في ملعب "الإعلام" عن طريق تحميله مسؤولية تفاقم الأزمة كلّما بات تقصيره "فاضحًا" وأكثر، يبقى الأكثر "استفزازًا" للبنانيين إصرار بعض المسؤولين التمييز بين جماعتي "داعش" و"النصرة" عبر تصوير الأخيرة وكأنها "حملٌ وديع"، في حين أنّ القاصي والداني يعلم أنها الممثل الفعلي لتنظيم "القاعدة" في سوريا ومن ثمّ في لبنان، وهي التي تعترف بكل وقاحة بجرائمها، ليخرج بعض الوزراء لنفي اعترافها الصريح، وتحويل جرائمها إلى حساب "داعش"، كما حصل في تفجير جبل محسن قبل فترة.
عبرة لمن يعتبر..
نعم، وبعيدًا عن "نرجسية" بعض اللبنانيين، فإنّ الحكومة الأردنية تفوّقت عليهم بأشواط، وأثبتت بتحرّكها بُعَيْدَ إعدام طيّارها معاذ الكساسبة أنّها لا تسكت على دماء أبطالها مهما كان الثمن، وأنّها لا تكتفي بالتفرّج.
أما لرافضي التصرف كـ"ميليشيا" من اللبنانيين، فقد يكفي أن يتعظوا من حقيقة أنّ "داعش" كانت قد أعدمت الطيّار الأردني في عزّ "المفاوضات"، لعلّ في ذلك "عبرة" لمن يريد أن يعتبر!