تنسب الآن "داعش" إلى غارة جوية نفذها الطيران الأردني، مقتل رهينة أميركية في سوريا.
هذا قد يكون صحيحًا. ولكن، لمَ أصدّق "داعش" في هذا المجال، وأنا أعرف كم تكذب في شأن قتل رهائنها؟
كذبت "داعش" وأختها "النصرة" عندما نشرت إحداهما شريط فيديو يؤكد فيه الجندي اللبناني علي السيد أنه خان جيش وطنه. وكان يلبس قميصًا أميركيًّا أسود بدلًا من البزّة العسكرية. علي السيد لم يخن، وإعدامه يثبت ذلك. إنما هذا الكذب منع الجيش اللبناني من إعلان استشهاده فور صدور الخبر، خصوصًا بعد تلقيه صورة مفبركة لرجل يبدو ذبيحًا (وهو ليس علي السيد) ويلبس القميص الأميركي الأسود الذي جُعل علي السيد يرتديها في الشريط. بعد ذلك وزّع "الدواعش" شريط فيديو ثانيًا، أثبت استشهاد علي السيد، الذي ذبحوه وهو يرتدي بزته العسكرية.
كذلك، كذبت "داعش" في كل شريط فيديو صوّرت فيه قطع رأس مدني غربي أو ياباني يرتدي الثوب البرتقالي. "داعش" أرغمت كلاًّ من هؤلاء الرجال على انتقاد أصدقائه ودولته وخيانتهم، وهو جاثٍ أرضًا في الصحراء، كمن يمثل دورًا. ولا يصرخ عندما يقف جلاد بقربه يمرر سكينًا على رقبته. وكل المشهد يبدو كأنه جاء من مسلسل تلفزيوني رخيص. فلا نقطة دم تسقط من الجرح المزعوم! بيد أن الجثة التي تبدو في آخر الشريط هي حقيقية، فلا أتصور أن جماعة "داعش" أو غير "داعش" تستطيع تقليد الموت في هذه الدقة. إذًا "داعش" قتلت هذه الرهائن فعلاً. فلماذا أهانتها بهذا الشكل؟ لماذا فرضت الشك والبلبلة الإعلامية؟ وأي دماغ شرير يستطيع التفنن في اختراع سبل جديدة للتعذيب السيكولوجي، عبر الحدود وعبر البحار؟
وكذبت "داعش" عندما أعلنت إحراقها الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيًّا في 3 شباط.
ولفتنا أمران:
الأول: نبي المسلمين منع، في شكل قاطع، إحراق البشر وهم أحياء، قائلاً: "إن النّار لا يعذِّب بها إلّا الله" (صحيح البخاري).
والثاني: كذبت "داعش" بالنسبة إلى تاريخ الجريمة، لأنها أحرقت معاذ الكساسبة في 3 كانون الثاني 2015.
وكذبت "داعش" طوال هذا الشهر، بادعائها أنه لا يزال حيًّا، علها تحصل على إرهابيين موجودين في السجون الأردنية.
وشاع خبر إعدام الطيار الأردني في 3 كانون الأول، فرفضت الدولة الأردنية متابعة المفاوضات لتحريره، إن لم تعطِها "داعش" شيئًا يثبت أنه حي. وطبعًا لم تكن "داعش" قادرة على إعطاء البرهان المطلوب. فتوقفت المفاوضات، ونشرت "داعش" صور حرق الطيار، ثم فيلمًا كاملًا، تريد استعماله لشن حملة إعلامية على نطاق عالمي.
وقد دفعت "داعش" مالًا كثيرًا بغية نيل أفظع الأعمال الفنية. فأعدّت سيناريو روائيًّا، ووضعت كاميرات عدة من أجود الأنواع لتصوير الجريمة من أماكن مختلفة. وأُخرِج الفلم بتقنية رفيعة، فاحتاج إلى وقت طويل لدرس الشرائط المصورة واختيار الموسيقى والمشاهد ودمجها. وعدد الشرائط المصورة كان يضاعف الوقت اللازم لدرس الصور ودمجها، ويتطلب براعة أكبر من قبل صانعي الفلم النهائي. يبدو أنهم عملوا ليلًا ونهارًا طوال هذا الشهر الذي أعطتهم إياه المفاوضات.
ولكن لماذا دفع هذا الكم من التفكير والمال والتعب لإنتاج مشهد دموي؟
لأن المشهد الدموي هو أكبر أداة بروباغندا موجودة لدى السلطات اللاشعبية. يبرز قدرتها على التعذيب، فيزرع الرعب في النفوس، والرعب يجعل الناس يشعرون بعبثية محاربة السلطة القاتلة. مشهد إحراق الطيار الأردني يجعل الطيارين الآخرين يخافون وهم يطيعون الأوامر، وربما، يخطئون، فتسقط الطائرة.
وكان الأمبراطور الروماني، في الأزمنة القديمة، يقدم إلى الشعب مشاهد ذبح أو إحراق لرهائن حية. وكان قسم من الشعب يصفق، والقسم الآخر يشمئز. كما هي الحال بالنسبة إلى المشاهد التي توزعها "داعش" اليوم، في العالم أجمع، بواسطة الإنترنت. فهي تستعمل الإنترنت كما كان الأمبراطور الروماني يستعمل مسرح الكوليزيه وسيرك الفاتيكان، يقدم فيهما أعداءه ذبائح للوحوش أو لسكين الجلادين. وقد أحرق نيرون عشرات الآلاف من المسيحيين أحياء في سيرك الفاتيكان، فأضاء ليل روما بأجسادهم المشتعلة.
و"داعش" تشبّه نفسها بالأمبراطور الروماني عندما تنشر صورة للفاتيكان زورتها على الكومبيوتر، فنزعت منها الصليب وتماثيل يسوع والقديسين، وألصقت عليها صورة رايتها محل راية الفاتيكان.
"داعش" تدّعي أنها ستحقق حلم محمد الثاني. كان هذا السلطان العثماني يعد نفسه أمبراطورًا رومانيًّا لأنه احتل القسطنطينية، روما الشرق. واختارت "داعش" لمجلتها بالإنكليزية اسم "دابق"، لأن سليم الأول حفيد محمد الثاني، ربح معركة مرج دابق، فاستولى على بلاد الشام، وجزيرة العرب، ومصر، والخلافة.
وتستعمل "داعش" الإخراج السينمائي المكلف لنشر الرعب ومنع الناس من مواجهتها. بهذا، تقتدي بالأمبراطور الروماني نيرون، الذي كان يدفع الكثير من الذهب لإخراج مشاهده مسرحية دموية ترعب الشعب الذي لا يحبه.
وكذلك، "داعش" ليست محبوبة، ونطاق استعمالها للرعب يثبت درجة كره الناس لها.
لكن زمن "داعش" بات محدودًا، كما كان زمن نيرون محدودًا.
فلا تظنن نفسها صامدة إلى الأبد.
الأبدية من خواص الله، و"داعش" ذاهبة إلى الفناء.