هناك مسلح سوري من أبناء المنطقة الجنوبية أصيبت زوجته خلال قربها منه في معركة كان يخوضها في مواجهة القوات المسلحة السورية، كانت لديه صعوبة في إيصالها إلى الأردن، فحاول إيصالها إلى داخل كيان الاحتلال الصهيوني، إلا أنّ إدارة العمليات الميدانية لكيان الاحتلال رفضت استقبال المصابة، تمنى عليهم كثيراً، غير أنّهم أصرّوا على الرفض، فماتت الزوجة المصابة، هكذا وصف هذا المسلح طريقة وفاة زوجته!.
افتتح بهذه القصة المقتضبة كي أقول أن كيان الاحتلال استقبل عشرات وربما مئات الإصابات قبل هذه المصابة، وتحديداً نساء، لكنّه رفض استقبال هذه الحالة، السؤال لماذا يرفض العدو الصهيوني استقبال هذه المصابة، في حين أنّه لم يرفض أخريات، وعندما سألت في الموضوع وعنه، أفادتني جهات مسؤولة أنّ هناك رفضاً لعشرات الإصابات الأخرى المعروفة جيداً، وكان هذا الرفض واضحاً ومتزايداً خلال الأيام الماضية من عمر المواجهة.
إضافة إلى ذلك يجب مراقبة تحولات هامة على هذا الصعيد، وهو أنّ المزاج العام لدى أبناء الجنوب السوري أخذ يميل باتجاه فهم أكبر لحقيقة الحاصل في الجنوب، فمن شعارات مفتوحة على «الحرية والتحرير» إلى شعارات أخرى لها علاقة بالتنسيق مع العدو الصهيوني، وهو ما شدّ العصب الجمعي لدى الحاضنة الجنوبية باتجاه فهم الحاصل واكتشاف حقيقته، في ظل فعل تراكمي متصاعد في شكل كبير جداً.
لم يكن وارداً خلال الأيام الماضية أن تتسع الحاضنة الجنوبية لمفهوم المقاومة الشعبية في مواجهة هذه التنظيمات المسلحة، ربما تشكل فعل رفض للحاصل، وربما تشكل وجداناً جمعياً جديداً يعيق التقدم الحاصل على مستوى ترسيخ مفهوم «حزام آمن» في الجنوب، الحزام الذي عمل عليه كيان الاحتلال مع دول عربية أخرى، من أجل تفويت الفرصة على تغيرات هامة حكمت خريطة المواجهة وقواعد الاشتباك على مستوى جبهة الجولان وجبهة الجنوب اللبناني، وهو بالتالي، ونعني به كيان الاحتلال، سارع إلى الاستفادة من جسد مسلح في ترسيخ «حزام آمن» يقيه إمكانية نتائج هذا الصعود والتغير الكبير الحاكم لقواعد الاشتباك.
غير أنّ المشهد والرئيسيات والقواعد التي بني عليها مفهوم «الحزام الآمن» آخذة بالتغيّر، كون أنّ مئات عدة من المسلحين الذين لم يبقوا بنادقهم على ذات الكتف أخذوا يعيدون تموضعهم من جديد، إضافة إلى صعود هام ساهم في تغيّر المزاج العام، وأدى إلى فرز مقاومة جنوبية يقودها ويشكل جسدها الرئيسي سوريون من أبناء الجنوب، كون أنّ دخول كيان الاحتلال على خطّ المواجهة وفّر لهم مستنداً وطنيّاً هاماً لإعادة إنتاج ذواتهم ورسم معالم خريطة جديدة للمواجهة.
في تقديرنا أنّ القوات المسلحة واستخباراتها نجحت في ما ذهبت إليه، من خلال أنّها أفرغت الجغرافيا في المرحلة الأولى لتوفير مناخ يضمن تقدم المجموعات المسلحة التي سُحبت باتجاه الجنوب، والتي لم تكن نظيفة أساساً، والتي كانت قد ساهمت في تشكيلها استخبارات عربية و«إسرائيلية»، لكنّها في الآن ذاته كانت معرّضة لاختراقات كبيرة، وهو ما كنّا قد أشرنا إليه بقولنا أنّه جسد ليس نظيفاً، الأمر الذي أدى إلى توفير بيئة كاشفة لحقيقة الحاصل، وهو ما دفع الحاضنة الاجتماعية الجنوبية لرفض مثل هذا المشهد الجديد، إضافة إلى توفير عامل أخلاقي ووطني إيجابي ساهم في إعطاء المشروعية لنهوض البعض من أبناء الجنوب لمواجهة الحاصل ذاته.
«حزام الأمان» الذي فكرت به، وأعدّت له، قيادات واستخبارات كيان الاحتلال لم يأمن هو نفسه من جهة، حيث أنّه تشكّل في ظروف مختلفة ومن أجل أهداف أخرى ليست هي المطروحة الآن، ثمّ أنّه أضحى أمام معادلة جديدة ناظمة لطبيعة المواجهة الفريدة، أساسها أنّ الجيش السوري لن يكون في المقدمة، وإنما سوف تتقدم مجموعات تشكلت من ضمن الحاضنة الجنوبية كي تدير معه المواجهة، وسيبقى الجيش السوري ظهيراً لهذه المجموعات.
لقد تحسّست استخبارات بعض الدول العربية كما استخبارات كيان الاحتلال منذ أيّام، ونعني بالضبط عدم نظافة الجسد المسلح فعمدت على إعادة إنتاجه من جديد، من خلال دمج أكثر من فصيل مسلح تحت اسم واحد، من أجل الحيلولة دون الاختراقات التي حصلت على مستوى إعداد هذا الجسد في مرحلته الأولى، والتخلص قدر الإمكان من بعض أولئك الذي تأثروا في ظلّ تبدّل الأولويات وانقشاع حقيقة وأبعاد العدوان الرئيسي على الوطن السوري.
أضحت الأرض اليوم محمولة على خريطة جديدة، أرادها العدو الصهيوني خريطة يحكمها «حزام آمن»، في حين أنّ الاستخبارات السورية أرادتها خريطة يحكمها «حزام حارق» يشكّل رافعة جبهة مفتوحة لمقاومة شعبية تعيد استنساخ سيناريوات سابقة!.
لقد فكّر كيان الاحتلال «بحزام آمن» له، يضمنه من «الحريق السوري» ويساهم فيه وبه، ويُبقي عليه، ولم ينتبه إلى أنّ هناك من كان يعدّ العدّة له أيضاً، ويسحبه باتجاه هذا «الحريق»، حيث تمّ إيقاعه بتلك الفكرة أصلاً، مثلما تمّ إيقاعه بفكرة أنّ الجيش السوري يتراجع وينهزم في بعض الرؤوس والمرتفعات، الأمر الذي دفعه للاصطفاف علانية إلى جانب الجسد الذي أعدّه مع بعض استخبارات الدول العربية، وزجّ نفسه في بعض المشاغلات الميدانية، ونعتقد أنّ الاستخبارات السورية هي من دفعته لهذه المشاغلات لجلاء المشهد جيداً، ثم للبناء على صعوده وتطوّره.
إنّ الإعداد بهذه الطريقة يمنح المواجهة عمراً إضافياً جديداً، ويحدث تبدلات هامة وواسعة في طبيعتها، ويخرج هذه الجغرافيا من عامل استقرارها، عامل استقرارها المضمون بقرارات دولية وتوافقات مرهونة بأكثر من «فضّ اشتباك» كانت قائمة منذ مطلع السبعينات، ويعيد إنتاج قواعد اشتباك جديدة وقع فيها الاحتلال نفسه، الأمر الذي سيدفع باتجاهات جديدة، لها حسابات مختلفة تماماً.
المشهد بهذا المعنى لن يكتمل إلا بخروج الأردن منه، باعتبار أنّه متورّط حتى أذنيه، غير أنّ تغيّراً هاماً حصل على هذا المستوى من خلال حادثة الطيار الأردني، الأمر الذي سيدفع الأردن كي يكون خارج السياق الذي وضع نفسه فيه، خصوصاً بعد جملة رسائل ميدانية آتية تؤكد أنّ «داعش» من يخوض معركة الجنوب!.
وأخيراً فإنّنا نؤكد أنّ حادثة المسلح الذي لم يقبل كيان الاحتلال إسعاف زوجته وإنقاذها، ستصبح علامة فارقة في تغيّر مشهد هام، لم يكن كيان الاحتلال يتمنى أن يذهب بهذا الاتجاه!