عندما أدركت إسرائيل بان العدوان الذي استهدف سورية لن يحقق أهدافه التي منت النفس برؤيتها حقيقة على ارض الواقع، وعندما تأكدت بان محور المقاومة رغم الحرب الكونية التي استهدفته بغية تفكيكه وتطويق مكوناته ومحاصرتها لتعطيل فعاليتها الواحدة تلو الأخرى، انكفأت لتبحث في الميدان عن شيء يخصها هي مباشرة بعيدا عن مصالح مكونات جبهة العدوان قيادة وتابعين. وكان خيارها التعويضي كما بات معروفا، ينصب على إقامة منطقة امنيه أو حزام أمنى في الجولان، تولي شأنه لجماعات مسلحة تنظمها وتسلحها بما يستعيد صورة جيش حداد ومن بعده جيش لحد في الجنوب اللبناني.
لكن محور المقاومة الذي أتقن المواجهة و برع في إدارة حربه الدفاعية الجارية على ارض سورية منذ ما يقارب الأربع سنوات ، رد المحور هذا على المشروع الإسرائيلي ذي البعد الاستراتيجي ، بقرارات استراتيجية من شأنها أن تقطع الطريق على إسرائيل في سعيها الجزئي ذاك و تلحق محاولتها الفرعية بالحرب الكلية من حيث الفشل و الإجهاض فكان القرار بفتح جبهة الجولان أمام المقاومة ، ثم كان القرار بالبدء بتنظيم المقاومة الشعبية في حوران و تسليحها و إمدادها بالخبرات المكتسبة إبان مقارعة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني ، و أخيرا القرار بالبدء بعمليات ميدانية تربك العدو في مرحلة أولى و تطهر الجولان من جيش لحد السوري المنتظم تحت عنوان " جبهة النصرة " الفرع السوري من تنظيم القاعدة الإرهابي ، الذي صرح ليبرمان وزير خارجية إسرائيل ، بانه تنظيم حليف ، وصف يذكر تماما حتى التطابق مع ما كانت تصف به إسرائيل جيش لحد.
خشيت إسرائيل على خطتها، وأرد ت أن توجه رسالة دموية قاسية إلى محر المقاومة مجتمعا لتثنيه عن فعله، فكانت عملية القنيطرة الإجرامية التي طالت مكونات المحور الثلاث معا، رسالة أرادت إسرائيل منها أن يفهم محور المقاومة أن قراراته المتقدم ذكرها لن تمر ولن تسمح إسرائيل بها، وتصورت إسرائيل أن محور المقاومة سيتلقى الرسالة ويذعن لها مرفقا سلوكه برد ببعض البيانات التي لا تغير الواقع ولا تحدث في الميدان أثرا.
وكانت المفاجأة – الصاعقة في مزارع شبعا حيث نفذت المقاومة عملية أجهضت كل آمال العدو وأحلامه من عدوان القنيطرة، ووجهت رسالة قاطعة بان المشهد تغير، والبنية الجيوسياسية للميدان المتشكل من مثلث سورية -لبنان -فلسطين المحتلة تغيرت وأن المتغيرات فيه ذات طبيعة استراتيجية قائمة على أركان ثلاثة، الأولى وحدة الجبهة مع تعدد محاور القتال والثانية وحدة المقاومة مع تعدد العناوين، والثالثة وحدة الهدف مع تقاسم في المهمات أو توزيعها.
ابتلعت إسرائيل عملية مزارع شبعا، لأنها لم تكن جاهزة للتصعيد والدخول في حرب لا تتمكن فيها من الانتصار ولا تتمكن فيها من استيعاب الخسائر على أنواعها كما لا تتمكن فيها من وضع حد لها وفقا لتوفيتها فإسرائيل تعلم انها منذ العام 2006 خسرت قرار الحرب الطليق من الضوابط وفقدت القدرة على التحكم بمسار الحرب مكانا وزمانا، خسارة أدت إلى انهيار في عقيدتها العسكرية لم تحسن حتى الآن ترميمه بما تشتهي.
ظنت إسرائيل أنها بصمتها أو تقبلها الضمني لعملية مزارع شبعا تغلق الملف، وهنا كان سوء التقدير الأخر، فمحور المقاومة لم يفتح ملف الجولان من اجل التسلية واستهلاك الوقت، بل فتحه لأنه مرتبط عضويا بما يجري في الداخل من حرب عليه تقودها أميركا وتنظم فيها دولا وكيانات وتنظيمات شتى تعمل كلها بالمنطق الإرهابي الإجرامي وتستند إلى الجوار السوري في امتلاك القدرات، وفي الجبهة الجنوبية يستند الإرهابيون إلى كل من إسرائيل والأردن.
الأردن التي يبدو انها تقدمت اليوم لتلعب دور المنفذ المباشر للخطة الأميركية الرابعة في سياق العدوان على سورية بعد فشل الخطط الثلاث الأولى (خطة الإخوان – خطة بندر السعودية – خطة داعش)، وأنها تتحضر لزج ما قد يصل إلى 30الف جندي وضابط في حرب برية باتجاه سورية والعراق حيث أصبحت الفرقة المدرعة التي ستدخل في قوامها جاهزة قريبا من الحدود العراقية فرب قاعدة المفرق.
أما إسرائيل فيبدو أن دورها قائم على عنوانين ذاتي خاص يتصل بإقامة الحزام الأمني واحتضان جبهة النصرة، وتحالفي عام يتصل بدعم الخطة العامة وتقديم ما يمكن تقديمه في الميدان وخارجه للأردن للنجاح في مهمته البرية.
لذلك قفزت الجبهة الجنوبية لتحتل المرتبة الأولى من الأهمية في اطار الصراع القائم على الأرض السورية بين العدوان و المقاومة ، و باتت في لحظة مفاجئة تشكل للمعتدي باب الفرج للخروج من سلسلة الإخفاقات المتلاحقة منذ اربع سنوات ، و تشكل بالنسبة للمقاوم المدافع ميدان الفعل الحاسم الذي بامتلاك زمامه يتم إجهاض العدوان في خطته الأخيرة التي توحي المؤشرات بانها قد تكون الخطة الأخيرة قبل الذهاب الجدي إلى الحل السياسي الذي يقترب اكثر كلما أغلقت أبواب في الميدان اكثر ، لا بل قد يغالي البعض للقول بان الجبهة الجنوبية قد تكون الحلقة الرئيسية الأولى من سلسلة الحسم الميداني في سورية .
ولان لهذه الجبهة هذه الأهمية، ولان الحرب مفاجأة وسرعة مدروسة، فقد بادرت سورية بجيشها والقوات الحليفة إلى توجيه الضربات السريعة المؤلمة للجماعات الإرهابية العاملة في المنطقة برعاية وحماية إسرائيلية مباشرة، ضربات تمت عنوان "شهداء القنيطرة " لتأكيد دلالاتها و ارتباطها ، عملية أدت في ساعاتها الأولى إلى إحداث شبه انهيار في منظومة تلك المجموعات ما جعل قسم منها يتشتت والقسم الآخر بتراجع أمام الهجوم العسكري السوري المتواصل والذي لن يتوقف حتى يحقق المهمة الكاملة التي من أجلها انطلق.
لقد شكل العمل العسكري المخطط بعناية فائقة على الجبهة الجنوبية والمنفذ باحتراف عسكري عالي المستوى، شكل صدمة لإسرائيل منعها من التدخل المباشر لوقفه، كما انه شكل صدمة للإرهابيين الذي انحسروا عن قسم كبير من الأرض التي دخولها لتكون القاعدة الأمامية لحماية إسرائيل وملاذهم الآمن في مواجهة الجيش العربي السوري، كما ويبدو انه سيشكل صدمة للأردن التي تستعد للانطلاق في عمل بري تنفيذا للخطة الأميركية ضد العراق وسورية.
وفي إطلالة تقويمية سريعة للنتائج الأولية للحرب الاستباقية التي بادر محور المقاومة لشنها في الجولان، نستطيع القول بان سورية ومحور المقاومة معها ومن خلال هذه العملية باتوا في الاتجاه الصحيح على طريق تحقيق أهداف عدة:
- إجهاض فكرة الحزام الأمني الإسرائيلي ومنع قيامه في الأرض السورية المحررة، كما ومن غير المستبعد أن تطاح المنطقة العازلة التي سلمتها إسرائيل إلى جبهة النصرة بإشراف مباشر منها وعلى عين الاندوف وسمعه وهو الذي كان عليه أن يحميها ويمنع أي كان من الدخول الهيا حسب اتفاقية فض الاشتباك.
- التأثير على انطلاق الأردن في حربه البرية التي يعد لها، وإذا جمعنا مفاعيل الميدان إلى مفاعيل الموقف السياسي السوري الرافض لأي عمل عسكري بري على الأرض السورية من غير تنسيق وقبول سوري، فأننا نستطيع القول بان سورية قطعت الطريق على الأردن في العملية البرية على أرضها وحتى قبل أن تبدأ.
- رفع سقف الحماية لدمشق، بمنع اتصال المسلحين في الجنوب بالإرهابيين المتواجدين حول العاصمة خاصة في الغوطة الشرقية، وتسهل عمليات الجيش العربي السوري والقوات الرديفة في استكمال عمليات التطهير الجارية حول العاصمة وبشكل أسرع.
- منع تشكل أي تهديد او خطر على المقاومة في لبنان ، و إغلاق ملف منطقة شبعا و محور الإرهاب الجنوبي المنطلق عبرها من الجولان باتجاه الجنوب اللبناني قبل اكتمال فتحه .
لقد ضرب محور المقاومة ضربته الذكية والفعالة على الجبهة الجنوبية وانطلق في تنفيذ عملية عسكرية واسعة، سرعان ما ستظهر نتائجها الاستراتيجية على كامل المشهد السوري والإقليمي، وجاءت هذه العملية لتشكل في وقعها وموقعها البيان رقم 2 بعد البيان رقم 1 الذي أطلق بعد عملية مزارع شبعا، ولتؤكد أن محور المقاومة يعرف جيدا كيف يرد في المكان والزمان المناسبين ...والبقية تأتي.