قيل ان امرأة توجهت في احد الايام الى مسؤول تطلب منه توظيف ابنها في "الدولة" ليتمكن من الزواج. لكن المسؤول لفت الى ان "وظيفة الدولة" لا تؤهل طالبها للزواج ومترتباته الاجتماعية، فكان الرد الفطري للوالدة ان "الاعتماد على البرّاني وليس على المعاش".

هذا هو، ويا للاسف، منطق كثيرين في هذا البلد نتيجة الغش والتزوير والفساد المستشري، جراء ترهل بعض المؤسسات الرسمية وغياب اجهزة الرقابة والمحاسبة الجدية والفعلية في عدد من الدوائر الحساسة، المتصلة اتصالا وثيقا بخدمة المواطن وقضاياه وشجونه ومصالحه، فحقق كثيرون منهم مكتسبات غير مشروعة، وتغنّوا بما قاموا به حينا بذريعة سد العوز، واحيانا بسبب الولاءات المتعددة. في الحالين، هناك ازمة ثقة جدية بين المواطن والدولة التي من المفترض ان تكون مشروعا متكاملا ودائما لازدهار المجتمعات والمؤسسات وانمائها وتطويرها وتحديثها، لضمان الامن والاستقرار الاجتماعي والاسري. هذا المشروع لا يكون بغير مجموعة قوانين ناظمة ومطبقة للعلاقة بين الدولة ومؤسساتها وبين المواطنين.

لم تعد الوظيفة العامة امرا استثنائيا في حياة الموظفين، كما كانت الحال في الماضي. لم يعد في وسع اي شخص تجنب التعامل مع الموظف العام بعدما اصبحت الوظيفة العامة جزءا من بدء حياة الانسان الى حين وفاته: يدخل في سجل النفوس في شهادة ميلاد، ويخرج منه بوثيقة وفاة. كلاهما يقوم بتحريرهما موظف عام بصفة رسمية، حتى تترتب عليها الآثار القانونية والاجتماعية.

ضمّنت الدول دساتيرها احكاما تقضي بأن الوظائف العامة حق للمواطنين، يطبق على قدم المساواة، وذلك بموجب الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي نص على: "حق التوظيف والمساواة في تولي الوظائف العامة للافراد جميعهم، وبحسب قدراتهم من دون تمييز بينهم لغير كفايتهم".

هناك اتجاه موضوعي يعرّف الوظيفة العامة بانها مجموعة من المهمات والاختصاصات يناط القيام بها بشخص معيّن اذا توافرت فيه الشروط الضرورية لتولي اعباء هذه الوظيفة. بذلك تختلف الوظائف من حيث الواجبات والمسؤوليات والحقوق. ثم ان الوظيفة هي مجموعة الاوضاع والانظمة القانونية والفنية الخاصة بالموظفين العموميين، سواء التي تتعلق بمستقبلهم الوظيفي وعلاقتهم بالادارة، او التي تتصل بأدائهم لمهمات الادارة العامة بأمانة وفاعلية.

بهذا المعنى، تصبح الوظيفة حق لمن يريد، على ان تتوافر فيه الشروط المنصوص عليها. والامور لا تقف عند هذا الحد. اذ على الادارة تدريبه وتأهيله ورفده بما يتطلب من مهارات تواكب التقدم والمعرفة، على ان يحصل في المقابل على ضمانات مادية واجتماعية وتربوية وصحية تحفظ كرامته وتؤمن له وعائلته عيشا كريما، وتحصّنه من الرضوخ للابتزاز او الرشوة. كما عليه ان يدرك في الوقت عينه ان كل ما يحصل عليه يتأتى من جيب المكلف اللبناني الذي يجب احترام وقته وعمله ايضا. فلا يصح التعامل مع المواطن كمتوسل لما يطلبه من خدمات هي واجب على الدولة تقديمها بسرعة، ومن دون ابتزاز او منّة. لان الموظف ليس جزءا مستقلا عن ادارتها وتوجيهاتها، بل هو جزء من آلية ادارية متكاملة تعكسها التشريعات البرلمانية والقرارات الإدارية.

في الحالين لن تكون هناك دولة حقيقية وعصرية ما لم يدرك الموظف ان عمله واجب ومسؤولية، كما على الدولة واجب تأمين ظروف حياتية افضل له ولعائلته، تبعده عن الولاءات المشبوهة والرشوة. هكذا يتم التكامل ويتحقق ما يصبو اليه كل مواطن شريف في هذا البلد.