تبدو الخريطة الجديدة للمنطقة على الشكل الآتي:
جيش تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في العراق وسورية وجيش الحوثيين في اليمن. ويتسع نطاق الحروب أكثر فأكثر في ضوء عجز «الحكم المركزي» في هذه الدول وغيرها عن وضع حد للحروب. لذا، تسيطر الفوضى ويسود الاضطراب ويساور المواطن العادي الخوف من الآتي.
ويؤكد كثير من القرائن أن هذه الحروب تدخل ضمن انتشار الإرهاب في المنطقة والحرب عليه، وحرب الإرهاب على محاربيه، وهي لن تنتهي قريباً. ومثلاً لا حصراً طلب الرئيس باراك أوباما من الكونغرس الموافقة على مواصلة مواجهة «داعش» ثلاث سنوات جديدة، وهذا التقدير الزمني يلتقي مع معلومات أخرى عن بقاء هذه الحرب ما يقرب من خمس سنوات. لكن، ما من أحد يطرح السؤال: كيف سيكون الوضع خلال هذه السنوات على المنطقة وأهلها؟
ونترك الأوضاع في العالم العربي لنركز على لبنان الذي أرغم تدريجاً على خوض الحرب على الإرهاب. والسؤال المحوري: هل يملك لبنان عبر جيشه الوطني ما يمكنه من خوض هذه الحرب؟
لقد شهدنا «العراضة» على مرفأ بيروت لبعض أنواع المدافع والأسلحة المختلفة المرسلة من الولايات المتحدة في سياق دعمها للجيش اللبناني كي يدافع عن أرض الوطن. ومع الترحيب بوصول هذه الأسلحة ما زال لبنان يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير كما يقول أهل الجيش والخبراء العسكريون في نقاشاتهم الخاصة.
لقد أبلغ فيه وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس الرئيس تمام سلام في لقائهما على هامش «الاجتماع الأمني» في ميونخ، عن طلائع الأسلحة الفرنسية نتيجة دعم المملكة العربية السعودية للبنان بثلاث مليارات دولار، إضافة إلى مليار رابع يعمل الرئيس سعد الحريري بالتنسيق مع السلطة لمعرفة كيفية الإفادة منها لتعزيز قدرات الجيش والقوى الأمنية لمواجهة ما يهدد لبنان من أخطار أولها «داعش» و «جبهة النصرة» ولن تكون آخرها. وكتبنا في هذا المكان بالذات في 18/10/2014، وفي سعي لمعرفة مدى قدرة الحكومة الحالية على مواجهة الأخطار، وقلنا «إن حكومة لبنان 24 كانتوناً»، وكل وزير يتمتع بنوع من «الحكم الذاتي» وباستقلالية تامة عن «الحكم المركزي»، وتساءلنا هل يمكن أن يستمر عمل الحكومة لأشهر قليلة مقبلة طالما أن التفاهم على اختيار رئيس جديد للجمهورية لم يتم، وما زال في حلقة التجاذبات السياسية، إضافة إلى نتائج الصراعات الإقليمية.
ومنذ تأليف الحكومة السلامية والأسئلة تتزايد حول آلية الحكم لتسهيل تصريف أعمال الجمهورية الضرورية على الأقل. وقد حرص الرئيس سلام على رفع شعار «التوافق ثم التوافق». لكن، مع مرور الزمن اتضح أن كل عضو في الحكومة يريد المشاركة في الحكم على قدم المساواة ليس فقط مع الرئيس سلام فحسب، بل يسعى بعض الوزراء من الطامحين إلى تحقيق «إنجازات بارزة» واختصاراً لمراحل الطموح الوزاري ليقتصر دور رئيس الحكومة على أن يكون ضابط الإيقاع بين مكونات الحكومة.
لم يعد طموح الوزراء أو بعضهم يقف عند المشاركة على قدم المساواة إلا مع رئيس الجمهورية، باعتبار أن تفسير هؤلاء الوزراء وكتلهم السياسية بلغ حد «تقاسم السلطة» على أساس أن كل وزير «رئيس جمهورية»!
لكن الجمهورية اللبنانية ليست بأفضل حال مع الفشل المتراكم من عدم التمكن من انتخاب رئيس جديد، على رغم انقضاء الوقت الطويل على الموعد الدستوري للاختيار.
وحول الحالة العامة ثمة كلام يجب قوله بوضوح وصراحة ولو كان بعضه جارحاً أحياناً. فالحد الأدنى من الكرامة الوطنية التي لا تحتمل إلا مقياساً واحداً، يدعو بلا تأخير إلى وقف عملية التسول على أبواب الخارج للمساعدة على انتخاب رئيس جديد.
وما حدث حتى الآن معيب بذاته من حيث فشل «لبننة» استحقاق الرئاسة واختيار الرئيس بتفاهم داخلي بين أعضاء التكتلات النيابية، حيث تم التوجه إلى الخارج القريب والبعيد لمساعدة الداخل على حسم الخلافات وانتخاب رئيس جديد. لكن الدول الخارجية ترد: هذا شأنكم الداخلي، اتفقوا على رئيس ونحن ندعمكم.
ويبدو لوهلة كأن عملية الانتخاب تشبه لعبة كرة القدم حيث يتم تقاذف الكرة ويسعى كل فريق لإدخالها في مرمى الآخر.
واليوم يسجل العداد أن لبنان باق بلا رئيس لليوم السادس والستين بعد المئتين، ولا شيء يشير إلى موعد محدد. لكنْ حان الوقت لإطلاق صرخة مواطن عادي يعايش مأسي الوطن بكل جوارحه كما حال الكثيرين:
أيها اللبنانيون اسمعوا وعوا... عليكم فوراً سحب انتخاب الرئيس من إطار التسول والاستجداء أملاً بالحصول على رئيس! وقد يكون باستطاعة الدول المساعدة ولو بمقدار معين على خلق بيئة ملائمة للانتخاب، لكن لا يجوز من حيث المبدأ الوطني استمرار الانتظار تسكعاً على أبواب الخارج.
ونأتي إلى «نقطة الحوار»: فلا يمكن أي لبناني عاقل أن يعارض قيام حوار بين حزب لبناني وآخر للعمل على جمع النقاط المشتركة وحل ما هو صعب ومعقد. لكن هذا الحوار دونه الكثير من الصدقية والشمولية لتمثيل آراء القسم الأكبر من السياسيين.
وهنا نعني حوار «تيار المستقبل» و «حزب الله». ولا شك في قوة تمثيلهما الشعبي والنيابي، لكن الأمر المؤسف أن هذه الحوارات تجرى ضمن صفة مذهبية وطائفية، (السنّة والشيعة)، فماذا عن الأطراف الاخرى المكملة لنصاب الوطن؟
ومع العودة لتأكيد ضرورة «الحوار»، فمن حق شركاء الوطن الآخرين أن يطالبوا بدور الشراكة في تقرير مصير المنصب الأول. ثم إذا كان صحيحاً أن المنصب مسيحي (ماروني)، فلا يجب أن يقتصر اختياره على عدد محدود من شرائح التركيبة اللبنانية الطائفية والمذهبية! إذ لم يعد جائزاً للطوائف الأخرى أن تقول: يا مسيحيين اتفقوا على رئيس ونحن ندعم خياركم؟ فهذه عملية هروب ليس فقط إلى الإمام، بل هروب إلى الوراء.
وهنا نشيد بالقرار الذي توصل إليه الحوار بإزالة جميع الصور والرموز من شوارع بيروت وصيدا وطرابلس، ولو مع بعض الإشكالات التي حصلت.
فنحن لا نعارض هذه اللقاءات لأي هدف، لكن يجب أن تكون أكثر شمولية، مع أن من المهم جداً توصل «حزب الله» و «تيار المستقبل» إلى تفاهمات تنعكس إيجاباً على البلد. والأسلوب المعتمد يبدو كأنه عشائري أو قبلي يعود بنا إلى التاريخ القديم عندما كانت كل قبيلة تختار من يمثلها فيما تُعزل بقية مكونات التركيب اللبناني.
والمفارقة المحزنة أنه في كل مرة تظهر تحركات تدعو وتناضل لإسقاط الصفة الطائفية السياسية، يأتي غول الطائفية ويسحق عناصر المجتمع المدني التي تتظاهر أحياناً لإسقاط الطائفية البغيضة. لكنْ ،حتى عناصر المجتمع المدني باتت غير فاعلة بما فيه الكفاية لفرض إحداث تغيير في الخيارات الوطنية الكبرى.
لكن، ومن قبيل الإنصاف والنظرة المجردة، لا بد من الإشادة بعمل هيئة الحوار الثنائي («المستقبل» - «حزب الله»)، من حيث أن الحوار نجح في احتواء حالات مذهبية وطائفية ومنع استغلالها. حتى ليمكن أن نطلق على الهيئة لقب حكومة الظل مع أنها تتمتع بقوة القرار أكثر من الحكومة نفسها، وإذا نجحت في تفادي المواجهات الطائفية أو المذهبية بما يخفض حال الاحتقان، فهذا جيد شرط أن تكون له صفة الاستمرارية.
وبعد...
أولاً: لا تمكن العودة إلى العهد الذي كانت فيه القبائل هي التي تختار ممثليها في مجالس النواب. فهذا عهد مضى مع أنه ما زال يعتمد في بلدان منها أفغانستان التي تعتمد تقليد «اللوياجيرغا» القاضي باختيار كل تجمع قبلي من يمثله في المجلس المركزي في العاصمة كابول.
ثانياً: مع مرور الزمن تتعقد الأمور أكثر، إلا إذا استطاع «تكتل الإصلاح والتغيير» بقيادة العماد ميشال عون، و «القوات اللبنانية» برئاسة الدكتور سمير جعجع، من كسر الجمود الذي يكبل عملية اختيار الرئيس العتيد من الطرفين. وتفيد أوساط الجانبين بأنه أمكن تحقيق بعض التقدم في شؤون أخرى قبل الاقتراب من بند رئيس الجمهورية. وإذا كانت التعددية مطلوبة ومرحباً بها كمظهر ديموقراطي وحضاري، فهذه التعددية داخل الصف الماروني أخذت في الآونة الأخيرة أبعاداً خطيرة من حيث انعكاسها على أنصار التكتلين المسيحيين البارزين تباعداً وانقسامات لها انعكاسات سلبية على الوضع العام.
ثالثاً: يجب الاعتراف بأن الرئيس تمام سلام يقوم بتحمل الكثير من الأعباء لتسهيل عمل الحكومة رغم كل ما يعترض الانسجام الوزاري من مطبات في الغالب.
ويجب القول بصراحة أن الرئيس سلام أول من يطالب بسرعة انتخاب رئيس للجمهورية، لأنه في الواقع الحالي يتحمل الكثير من الأعباء وضرورة اتخاذ بعض القرارات الأساسية والصعبة لتفادي الفراغ، وسيكون أول الفرحين بانتخاب رئيس جديد بعد طول انتظار، لأن هذا الأمر عندما يحدث يخفف الكثير من الأعباء الملقاة على كاهله.
أما بعض الوزراء من الطامحين إلى المناصب الأعلى، فإن الطموح حق طبيعي ومشروع، لكن إنقاذ البلد هو الذي يجب أن يكون الهم الأول لكل عضو في الحكومة السلامية الحالية. كما أن الانسجام الوزاري من متطلبات هذه المرحلة بالذات، ولا حاجة إلى تسجيل سياسات المواقف الدون كيشوتية التي لا تفيد لبنان في شيء.
إن الوضع في لبنان لا يتحمل وجود حكومة من 24 رئيس جمهورية من دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية.