مريب ما يجري اليوم في العاصمة التي تفقد خصائصها، وتخسر معالمها وتودع تراثها يوماً بعد يوم في إطار حملة ضارية بدأت منذ عقود لتغييب دورها الريادي، وتشويه رسالتها الحضارية وتزييف هويتها العربية، وكأن بيروت العراقة والثقافة والتنوير، بيروت الوطنية والعروبة والمقاومة ينبغي دفنها تحت التراب بواسطة العولمة المتوحشة ووكلائها المحليين والاقليميين الذين يتنافسون لرسم صورة جديدة لها، لا روح فيها أو حيوية، وتحديد مهمة جديدة لها تنأى عن القضايا الكبرى التي حملت راياتها في المرحلة الماضية وجعلت منها ست الدنيا وموئل العرب وعاصمتهم الثقافية والسياسية والحضارية. فالدور المقبول بالنسبة «للسادة الجدد» هو دور خدماتي ثانوي يسمح ببعض الهوامش ولكن في إطار التصحر العام الذي يسود المنطقة ويؤطر نشاطاتها ويجعل من هذه المدينة المضيئة مجرد محطة للسياحة والتجارة والخدمات المتنوعة.
وفي هذا المسار تتوارى كل فترة مؤسسة… القصر الجمهوري، وزارات، سفارات، مراكز ثقافية، منتديات، كلها هجرت العاصمة إما بسبب الحرب أو نتيجة قرارات سياسية منحازة. حتى وزارة الخارجية التي تشغل قصراً منيفاً وسط حديقة خضراء في الأشرفية كادت تلقى المصير نفسه لولا وقفة قلة من المسؤولين والنواب تصدوا مراراً لمشروع إفراغ العاصمة من مقوماتها. إلى ذلك تبخرت مدارس عريقة، وأخرى انتقلت لقاء تعويضات مالية مغرية، في حين عاد البعض الآخر عن قرار الهجرة لضرورات فرضت نفسها.
وعندما كانت الفرصة مطروحة لإعادة إعمار العاصمة بعد الحرب الضروس التي خطفت روحها، ودمرت شوارعها، وهشمت عمرانها اقتصرت الخطة على بنود هندسية إنشائية من دون مراعاة لخصوصيات المدينة ومتطلباتها وآفاقها، فأهملت أسواق الصاغة، والجوخ، والطويلة، والإفرنج، والخضار الخ… بدلاً من إعادة بنائها على نحو أفضل في وسط المدينة الذي فقد خاصيته هو الآخر مكاناً وطنياً للتبادل
واللقاء والتفاعل. أما الساحات العامة فقد عوملت بغرابة. ساحة الشهداء التي كانت تضج بالحركة والحياة وتفتح ذراعيها للبنانيين يقبلون عليها من كل صوب تم حرمانها من دورها ومحتواها وجمالها. وساحة الدباس العريقة بمحالها ودورها ومنتدياتها تم الإجهاز عليها وتحولت إلى مجرد طريق. أما ساحة رياض الصلح التي كانت تزهو بمساحاتها وعماراتها ومقاهيها فقد تحولت بعد مصادرة منطقة كبيرة منها لصالح أبنية تجارية، إلى طريق آخر يحاول نسيان ما كان من تحولات الزمان وتلاعب في تراث الاستقلال.
ومن دون أن نتغاضى عما يجري الآن من مناورات ومحاولات تتناول الملعب البلدي، وحرج بيروت، والمسلخ «الحديث» والحوض الرابع ومنطقة الكرنتينا فضلاً عن حديقة النورماندي بين البيال والسان جورج ، التي يؤجل العمل فيها سنة بعد سنة لصالح القضم والهضم وشركات الحكام وأزلامهم، فإن إقدام المسؤولين عن بيروت وتراثها بالترويج لحملة «الزيتوني باي» وإحلاله محل خليج مار جرجس يشكل محاولة موصوفة لتزوير حقائق تاريخية مدونة في الضمائر والكتب والسجلات والأسفار. فعندما تعلق اللافتات بالاسم الملتبس على الجدران ويحفر هذا الاسم المفتعل على الحجارة المنمقة وتزرع فكرته في الأذهان بواسطة الدعاية الإعلام فمعنى ذلك أن الأمر ليس عابراً وإنما يعكس توجهاً رسمه عقل غريب عن بيروت الميثاق وغريب عن تاريخ البلد، لكنه مصمم على تغيير الهوية ومسح الذاكرة مستفيداً من تواطؤ قوى سياسية فاعلة خدّرها المال وسوء الإطلاع.
ملخص القول إن بيروت تكاد تختنق بانحسار المساحات الخضراء، وهجرة الملاعب الرياضية وانتشار العوائق والفوضى في شوارعها، وغياب المؤسسات الساهرة عليها، فضلاً عن انهماك المسؤولين الكبار عنها بلعبة الخلاف والمحاصصة فيما ناطحات السحاب، متسلحة بأسوأ قانون للبناء، تسد المنافذ وتحجب الهواء وتشل الحركة. أما التطمينات التي تزدحم بها المنابر فلا يصمد أثرها حتى لساعات أمام معطيات تدمي القلب وتعصر الروح.