أتذكّر الأيّام الأولى للعدوان على سورية، أتذكّرها جيّداً، وهي لن تغيب عنّي ما حييت، حيث كنت على تواصل شبه لحظي مع أكثر من مؤسسة إعلامية ووكالة أنباء، وخاصة فضائيّة «الجزيرة»، الفضائيّة التي كانت حاسمة جازمة أنّ الحاصل في سورية «ثورة»، لها أهداف واضحة، ولها تطلعات جليّة، حيث كان مذيعو ومعدّو ومسؤولو الاتصالات في «الجزيرة»، من خلال برامجها التي رافقت الأحداث، يدفعون دفعاً بكرة النار، على مستوى المكان والزمان، والأغرب أنّهم كانوا يعرفون أجزاء من الجغرافيا تتجاوز معرفتي لها، من خلال إقامة شبكة اتصالات كبيرة ومعقدّة مع أبناء تلك المناطق، حيث استطاعوا أن يقدّموا صورة افتراضية تحاكي عملاً شعبيّاً يرتقي إلى مستويات عالية، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، في حين أنّ الأمر لا يتجاوز حالة غرائزية قائمة على عناوين بدائية، لها علاقة بتركيبة المجتمع وثقافة الناس القبلية والعشائرية، مثلما تمّ استغلال طيبة أهل هذه المناطق ودفعهم كي يكونوا وقود حريق كان يُراد له أن يتسع ويكبر ويمتدّ…
ربّما كنت من أوائل من كانوا يدركون ويعرفون لماذا هذا الإصرار الكبير من قبل «إعلاميين» ومهنيّي «إعلام» على إشعال النار أكثر فأكثر، ولماذا يريدون أن يتمّ تسويق المشهد في شكل «نظيف»، وأن يقدّم على أنّه مشهد «حراك شعبي»، ولماذا هذا التشبّث بجملة عناوين أهمّها أنّهم كانوا يصرّون على أنّ «الحراك» إسلاميّ، وله لون «طائفي» محدّد في مواجهة لون آخر!
الأرض لم تكن كما يصفون، الأرض كانت محكومة بمشهد آخر تماماً، في حين أنّ صورتهم كانت «نظيفة» جدّاً، وأعني إعلام شركة «دولة قطر»، فمن يراقب المشهد ميدانيّاً ويطابقه مع المشهد الصادر من خلال «الجزيرة»، تحديداً، يشعر بالريبة والخطورة الكبيرة، وهي الرئيسية الأولى التي دفعتني إلى الإصرار على أنّ الحاصل شيء آخر غير «الثورة»، وغير «المطالب الشعبية».
أتذكّر جيّداً أنني كنت على تواصل مع كثير من أبناء القرى والبلدات والمدن في هذا الجنوب الضحيّة، وبخاصة مدينة «درعا»، فقد كانت «الجزيرة» واضحة في أنّها تتحدث عن شيء آخر تماماً، مختلف عمّا يحصل على أرض الواقع، وتدفع باتجاهه في شكل مرعب وخطير، من خلال التركيز على «شيطنة» مؤسسة الدولة، وتسويق فرادة ونظافة «الحراك» الحاصل.
الواقع كان في مكان آخر تماماً، خصوصاً إذا ما عدنا لمعرفة من هم الذي شكّلوا طلائع هذا «الحراك»، والذين كانوا عبارة عن مجموعات ليس لها علاقة بتلك العناوين التي تصرّ عليها «الجزيرة»، ولا يعون كثيراً منها، حيث تمّ دفعهم إليها، ووضعها على شفاههم كي يتمّ التقاطها على أنّها «مطالب ثوريّة»!
كم كان الواقع «غرائزيّاً دمويّاً»، لكنّ إعلام شركة «دولة قطر» كان ذاهباً لتسويق مفهوم «الثورة النظيفة»، أو «الحراك النظيف»، حيث شكّل الأرضية الإعلامية لقنوات ووكالات أنباء أخرى، في الآن الذي جزّت فيه الرؤوس منذ الأيام الأولى بحقّ أفراد من القوات المسلحة، فقط لأنهم ينتمون إلى مؤسسات الدولة، كما تمّ ذبح بعض السوريين في الجنوب بالذات على أساس «طائفي ومذهبي»!.
والأغرب من ذلك كلّه، كيف لو علمنا بعد هذه السنوات الأربع، أنّ قسماً من أبناء مدينة درعا، ومنذ اللحظات الأولى يعرفون تماماً، من كان مسؤولاً عن مقتل الشباب الذين سقطوا كأوّل ضحايا للأحداث، وكيف أنّ أولئك القتلة لم يكونوا على علاقة بمؤسسات الدولة، فقد كانوا عبارة عن أفراد مدنيين دخلوا بين «المتظاهرين» وكان مطلوباً منهم أن يفعلوا ذلك، كي يكون هناك دم!.
وكيف لو علمنا أنّ هناك مجموعات كانت تدير الأرض وتوجّه الناس، وتدفعهم باتجاه عنوان هنا وعنوان هناك، فعندما حرق «القصر العدلي» لم تكن هناك طلقة واحدة من الدولة ومن أبناء القوات المسلحة، وعندما تمّ الاعتداء على «فرع الحزب» وبيت «المحافظ» لم يكن هناك «براميل»، وعندما تمّت استباحة «مساكن صيدا العسكرية» و«مساكن طفس» أيضاً، لم يكن هناك قوات مسلحة في شوارع المدن والبلدات، ولم تكن القوات المسلحة منخرطة في الأحداث بعد!.
لا أريد من وراء هذا الاستطراد أن أؤكد مؤكدّاً بالنسبة لي ولكثيرين، غير أنّني أحاول أن أجمع أطراف المشهد منذ بدايته، كي أقول بأنّ ما حصل لجهة صعود بهذا الاتجاه وهذه الصورة، لم يكن معزولاً عن البدايات، غير أنّ هناك لعبة كبرى كانت تحصل، تورّطت فيها جهات إقليمية ودولية، وكانت استخباراتها تعدّ العدّة لحريق الوطن السوري، ولم يكن الأمر يتعلق فقط «بإسقاط النظام»، بمقدار ما كان «إسقاط النظام» بالمعنى السياسي «إسقاطاً للنظام» بالمعنى الكلي للدولة والمجتمع، والدفع باتجاه أن تعمّ الفوضى ويعمّ الحريق أخيراً.
نسوق هذه الوقائع كي نربط بين ضفتي مشهد لم ينته ولم يتمّ إقفال بابه بعد، خصوصاً أنّ ذات السيناريوات ما زالت تمرّر وما زالت تعاد ويتمّ الاشتغال عليها، حيث تطوّرت فوضى الميدان السوري الجنوبي، وتم تظهير حقيقي لما كان يحصل، خصوصاً حين كان صعود المشهد واضحاً، باتجاه جغرافيا سورية جديدة، حين دخلت مدن وبلدات أخرى من المحافظات السورية الأخرى على خطّ النار، وخطّ الفوضى والذبح، غير أنّ الإعلام الإقليمي والدولي راح بعيداً في مناقضة الواقع، من خلال التركيز والتصدير والتسويق له على أنّه «ثورة»، وعلى أنّ السلاح الذي تمّ رفعه في وجه الدولة إنما هو «سلاح مشروع»!
ذات السيناريو اليوم يُعاد وفي شكل أوسع وأكبر وربما أخطر، حيث أنّ الإعلام ذاته، ونعني به إعلام شركة «دولة قطر»، الذي سوّق «داعش» كما «جبهة النصرة» في سورية، يسوّق اليوم «داعش» في العراق وفي سورية وفي ليبيا وفي الأردن وفي أكثر من مكان، فهو يحاول توفير الشرعية الأخلاقية والسياسية والثقافية لهما.
ربما نعيد دقّ ناقوس الخطر من جديد، في الآن الذي لم يصغ إلينا كثيرون في المرة الأولى، على أنّ شركة «دولة قطر» مدعومة من قبل الإدارة الأميركية وكيان الاحتلال الصهيوني، للعمل على تسويق هذا الخطر الوجودي على المنطقة وعلى أمتنا، من أجل تحويله شيئاً فشيئاً إلى أمر واقعي، ولا يهمّ إنْ كان موضوعيّاً أو لم يكن، فالواقع في السياسة ليس مشروطاً بالموضوعية من عدمها، خصوصاً عندما تقع المصائب الكبرى!