لسنتين خلتا، خطف التكفيريون مطرانَين كبيرَين وجليلين لمدينة حلب الشهباء، بولس يازجي ويوحنّا ابراهيم. ومنذ ذلك الحين، ومسيحيّو المشرق مختطفون ومشتَّتون ومسلوخون. أسئلة كبرى تطرح حول مصيرهما، فيما مصائر من اختطفوا توضّحت قبل الإفراج عنهم من مخطوفي أعزاز إلى راهبات معلولا، إلى أن حرّروا من ظلمة الأسر إلاّ المطرانين، والمسيحيون المدركون بعمق هذا الجرح مهجوسون بمصيرهما المجهول والخطير، وقد بات مصيرًا شبيهًا بمصير الإمام المغيّب موسى الصدر، مغلّفًا بكثير من الضبابيّة ومأخوذًا إلى المزيد من التكهنات المتلاشية، في ظلّ شلل واضح في الحراك عند من يفترض بهم أن تخضّهم تلك القضيّة الوجوديّة، لكَنْهِ أبعادها وكشف مصيرهما.
خطف المطرانين يازجي وابراهيم، ليس مشروعًا عابرًا، بل هو المقدّمة الفعليّة لمشروع أخطر مما يتصوّره عقل. وقد تجسّد في بعض المواقع المسيحيّة في العراق، والآن في القرى الأشوريّة على الحدود السوريّة التركيّة والسوريّة العراقيّة. ونحا نحو أقباط مصر بذبح واحد وعشرين قبطيًّا في ليبيا. تلك المقدّمة، أيّ خطف المطرانين، إذا ساغت المقارنة بالتوصيف المنهجيّ، تشبه إلى حدّ كبير اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وهو المقدّمة لانفجار الوضع بالعناوين المذهبيّة. وهذا ما لم يتمّ إدراكه من المراجع الروحيّة والسياسيّة كافّة، التي تعنى بالواقع المسيحيّ المشرقيّ، وعلاقته بالمكوّنات المشرقيّة الأخرى.
خطف المطرانين على المستوى المسيحيّ هو زلزالٌ كبير. ويخطئ من لا يذهب إلى هذا التشخيص بجديّته وواقعيّته وحدّته، على غرار خطف الإمام موسى الصدر ورفيقيه واغتيال الحريري. إنّ تلك الزلازل في بيئاتها، وهي بيئات جوهريّة تكوينيّة، استهلكت بتوظيفات شتّى، تعنى بانفلاش هذه المكوّنات بسياقات سوداء تنأى بها عن تاريخها ومعنى حضورها في سوريا ولبنان والعراق والمنطقة كلّها.
يشي كلّ ذلك بأنّ هاجس الوجود المسيحيّ آخذ بالتصاعد أكثر فأكثر، وبخاصّة في ظلّ ما حفّزه خطف المطرانين من أحداث تراكمت، فكشفت الفجوات الواسعة في العمارة المسيحيّة المتداعية، والتداعي لم ينشأ من القيادات السياسيّة فحسب، بل من القيادات الروحيّة التي اكتفت بالتعبير ولم تتجّه نحو التجسيد في أقسى حدوده، وبخاصّة مع المراجع العليا الإقليميّة والدوليّة، فتبقى أولويّة كبرى بما يليق بالمخطوفين الكبيرين، والتحفيز لحراك شعبيّ مسيحيّ ومسيحيّ-إسلاميّ هادف، يتوازن مع الاتصالات التي يجب أن تتولاّها تلك القيادات، من دون نسيان موقف مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة عبد اللطيف دريان من قضيّة خطف المطرانين، وهو موقف مشرّف.
تأتي في السياق نفسه مسألة حجز المسيحيين الأشوريين في الحسكة وقبلها ذبح الأقباط وسلخ مسيحيي الموصل وسهل نينوى، وتدمير الأديرة والكنائس وقتل الكهنة خالية من ضجيج مسيحيّ صاخب. وكأنّ الدّم المراق والخطف والحجز ليست حالات صارخة عند كثيرين، بعدما تخدّرت عقولهم ونضبت نفوسهم وضاقت صدروهم وآفاقهم، فيما المسألة وبهذا الحجم تبقى وجوديّة بما تمثّله من خطورة شديدة ليست على المسيحيين، بل على جميع مكوّنات المشرق العربيّ من أزيديين ومسلمين بمذاهبهم كافّة. إلاّ أنّ شموليّة الاعتداءات الداعشيّة وتوسّلها حربًا مذهبيّة تستهلكها الدول المولّدة لها، لا تنفي بدورها الخطر الوجوديّ الجاثم على المسيحيين وفوق صدورهم وفي جوهر وجودهم، ودم الأقباط في ليبيا كان أفظع رسالة داعشيّة وحشيّة "إلى أمّة الصليب" كما هم عبّروا. هذا عينًا يستدعي عند الجانب الإسلاميّ ثورة فقهيّة وسياسيّة تواجه ذلك السياق التكفيريّ المتفشي من سيد قطب إلى يوسف القرضاويّ، وتعيد الاعتبار إلى "الإسلام القرآنيّ" المتجلّي بثقافة قبول الآخر والتفاعل معه بإطار من الشراكة الحقيقيّة والواعية لمستقبل يرسم بها ولا ترسمه دول تستهلك الصراع وتفجّره بغية رسم خطوط جديدة في منطقة الشرق الأوسط برمّته.
غير أنّ المسيحيين في أدبياتهم لم يدخلوا عصر اليقظة بما تستوجبه من حراك ورؤى. وتلفت بعض الأوساط مسيحيي لبنان إلى ضرورة تأمين المناخات الحاضنة لهذه المسألة الدقيقة بعيدًا من أيّ إطار توظيفيّ مقيت. وتبدي تلك الأوساط خشيتها من خطر تمدّد هذا الإرهاب بحجمه في الإطار اللبنانيّ، لأنّ الهدف الأكبر عند هؤلاء تدمير "لبنان المسيحيّ" و"لبنان الإسلاميّ" أي لبنان الميثاق المركّب من هذين اللبنانين مثلما يحاولون إسقاط سوريا بتركيبتها المذهبيّة المتوازنة بحصر الصراع في وجهتين جوهريتين بعيدًا عن كلّ اصطفاف شاءه بعضهم لنفسه، الوجهة الأولى إسقاط النظام في سوريا بلونه الحاليّ وهو لم ينجح، والوجهة الثانية محاولة إفراغ سوريا وبخاصّة في المدى الواقع على الحدود السوريّة-التركيّة والسوريّة-العراقيّة من المكوّن المسيحيّ سواء كان أشوريًّا أو سريانيًّا أو أرثوذكسيًّا... فمتى ضربت سوريا الحالية بتركيبتها سهل على الداعشيين الإطاحة بهذا اللبنان بالذات في جوهره الميثاقيّ، وهذه رؤية استراتيجيّة يكتنزها الداعشيون ومن هم خلفهم.
إنّ الدور الملقى على عاتق مسيحيي لبنان، وبعد تراكم الأحداث الخطيرة في البيئة المسيحيّة المشرقيّة بات أوسع باستراتيجيته من مسألة رئاسة الجمهوريّة، وإن تمّ الإقرار عند الكثيرين بضرورة انتخاب رئيس قويّ يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريته الساحقة ويكون، تاليًا، مطلاًّ حاميًا لمسيحيي المشرق انطلاقًا من "لبنان المسيحيّ"، الذي يبقى حاجة لمسيحيي المشرق وضرورة ماسّة للتمازج المسيحيّ-الإسلاميّ، أي لتلاقي المسيحيّة المشرقيّة والإسلام القرآنيّ على أرضه. خطورة الوضع وغزارة الدماء المهراقة، وبحسب قراءة واضحة، باتت تتطلّب من القيادات الروحيّة بدءًا من البطريركيّة المارونيّة والبطريركيّة الأرثوذكسيّة والقوى المسيحيّة الأساسيّة والنخب الفكريّة والإعلاميّة الانكباب على الذهاب إلى ما هو أوسع من تنقية الذاكرة المتورّمة بين الفرقاء المسيحيين اللبنانين بسبب الانقسام العموديّ الدامي. الأوسع من تنقية الذاكرة وعلى الرغم من ضرورة استذكار الأسباب الموجبة التي أدّت إلى تلك الصراعات في البيئة المسيحيّة، هو استغفار كل فريق من الفريق الآخر على القاعدة المسيحيّة الإنجيليّة "إن غفرتم للناس زلاّتهم يغفر لكم أبوكم السماويّ أيضًا" (متّى 14:6) والمسيحيون اليوم في زمن صوم، وليسوا في زمن الترف. هذا السلوك إذا حصل من شأنه أن يفتح الآفاق لحراك روحيّ-سياسيّ باتجاه مواقع القرار، في إطار المشهد الواسع وهو الحرب على الإرهاب. وتشير بعض المصادر، بأنّ نجاح أيّ حراك، يصبّ في هذا الهدف، عليه أن يخلو من الرهانات والتوظيفات السياسيّة الضيّقة، لكونها لن تلامس الخطر الوجوديّ، حيث الدول تتعامل معه بلامبالاة واضحة، كما تسهّل هجرة مسيحيي المشرق في خطّة منهجيّة هادفة إلى إفراغ المشرق العربيّ من مسيحييه.
غاية الإسرائيليين ضرب المسيحية المشرقيّة، وترسيخ يهوديّة القدس. وما قتل التكفيريين للمسيحيين، من العراق إلى سوريا وليبيا بالأمس، وما صاحب قبل ذلك من خطف للمطرانين وراهبات أفرج عنهن، سوى عبارات تجسيديّة تؤكّد متانة هذا الهدف. فيكفي التماسه هذا وتشخصيه بدقّة من أجل انبلاج يقظة مسيحيّة واعية ومواجِهة تبدأ من لبنان.