طالما كنت أصرّ على استراتيجية «المشاغلة» التي كانت تتبعها القوات المسلحة السورية في مواجهة أدوات العدوان العسكرية، حيث نجحت نجاحاً باهراً في منع هذه المجموعات المسلحة من إمكانية تحقيق أهدافها الميدانية لجهة صرفها سياسياً، إضافة إلى جملة أهداف أخرى، أهمّها أنها استطاعت أن تظهّر أهداف هذه الأدوات، وأن تكشف حقيقتها في أنّها أدوات استعمال في يد أطراف العدوان الإقليمية والدولية، تشجيعاً وتنسيقاً وتمويلاً وتسليحاً، كما بيّنت وكشفت أخيراً أنّ هذه المجموعات شكلت أدوات استعمال مباشر في يد كيان الاحتلال الصهيوني.
«المشاغلة» كانت هامة من خلال الأهداف التي حققتها، وهي أهداف طالما أشرنا إليها في وقفات سابقة، أو حتى في إطلالات تلفزيونية عدة، فقد أدرك المتابعون كما أدركت «الحاضنة» التي كانت قد تعاطفت مع هؤلاء على أساس أنهم «ثوار» وإذ بهم أدوات استعمال في أيادي الآخرين ضدّ الدولة ومؤسّساتها، وأنّهم ليسوا كما وصفوا أنفسهم أو كما سوّق لهم كثيرون، كما أنّ «المشاغلة» ذاتها حالت دون إمكانية استغلال الجغرافيا من قبل أطراف العدوان ذاتها لإقامة جسد ندّ للدولة، وهو هدف من الأهداف العامة التي كانت تعمل أطراف العدوان على تمريرها.
كنّا دائما نركّز على معنى «المشاغلة» في حين أنّ أخوة آخرين لنا كانوا يتحدثون عن «الحسم»، وكنت أنا شخصياً أحاول أن أقنع الجمهور في ظلّ تمنياته لجهة «الحسم» بأنّ «الحسم» عنوان آخر واستراتيجية أخرى قد لا نضطر لها في كثير من الأحيان، وأن «المشاغلة» هي التي يجب أن ترسخ كمفهوم يحاكي المرحلة التي يمر بها العدوان.
كثيرون هم الذين سوّقوا «للحسم» بعيداً عن فهم دقيق لما يحصل ميدانياً، وكثيرون هم الذين كانوا ينادون به بعيداً عمّا كانت تفعله الماكينة العسكرية السورية، حتى وصل بالبعض أن يذهب بعيداً في وصفه لعمل ومنجز القوات المسلحة، علماً أنّ «الحسم» كان غير وارد في تلك اللحظات، فهو ينطوي على ملحقات وتبعات مخيفة في ظلّ المرحلة التي كان يمرّ بها العدوان.
دُفع الجمهور كي يرسخ معنى «الحسم» ويجعله مطلباً جماهيرياً، والإعلام لم يلتقط هذا المعنى، ولم يستطع أن يناور بعيداً عنه، وتمّ التركيز على عنوان «الحسم» على أنّه مطلب جماهيري، ممّا أدّى إلى اتهام القوات المسلحة على أنها غير قادرة عليه، وهو ما ساهم في التأثير على الروح المعنوية للمواطنين، في حيثية هامة من حيثيات الصمود الذي يمكن أن يصرف لحظتها في أماكن ومطارح أخرى لها علاقة بتمتين الظهير الشعبي للقوات المسلحة، وحجم هذا الظهير باعتباره خزان الطاقة البشرية الرافدة ماديّاً ومعنويّاً.
في ظلّ معنى «المشاغلة» أضحت الجغرافيا رخوة، وهذا أمر كان خطيراً جداً، تمدّدت استغلالاً له أدوات مرحلة العدوان، وحاولت أن تبني رؤوساً متقدّمة في أكثر من مفصل وفي أكثر من اتجاه، وهي رؤوس قادرة في ما بعد على التأثير على طاقة وحيوية الجغرافيا التي أبقت عليها القوات المسلحة السورية باعتبارها جغرافيا المجال الحيوي للدولة، كما تمّ الذهاب بعيداً في الرهان على إمكانية استحداث مناطق عازلة كان يمكن لها أن تكون جغرافيا خارجة عن سلطة الدولة ومرشحة لاحتضان ووجود الندّ لها، وهذا كان موجوداً في أكثر من اتجاه وأكثر من مكان.
لقد عمدت أطراف العدوان على استغلال الأردن للدفع باتجاه إقامة منطقة عازلة في الجنوب السوري، كما أنّ هناك مناطق حدودية مع لبنان كانت تعمل بعض أطراف العدوان على تحويلها لمنطقة عازلة، كما تعبت واشتغلت وجهدت حكومة «أردوغان» على ترسيخ المنطقة العازلة في الشمال السوري على طول الحدود مع تركيا، وهي مراحل كانت خطيرة جداً، غير أنّ الطاقة الكامنة للقوات المسلحة أسقطت إمكانية وجود هذه المناطق أو أحد منها، والسبب الرئيسي أنّ «المشاغلة» ذاتها كانت قد أبقت على الجسد الحقيقي للقوات المسلحة بعيداً عن إمكانية الضعف والوهن، الأمر الذي أبقى الجسد حاضراً لإسقاط الرؤوس الميدانية التي يمكنها أن تستعمل في إقامة أو ترسيخ مثل هذه المناطق.
إذن… يمكننا التأكيد على أنّ استراتيجية «حسم الرؤوس» حالت دون إمكانية أن يتكرّس مفهوم «المناطق العازلة»، حيث حُسمت تلك الرؤوس مع حدود لبنان خاصة في معركة القصيْر التي فشلت فيها إمكانية أن تتحوّل الجغرافيا إلى مناطق رخوّة يمكن أن تستغل في تمرير ما هو جغرافي سياسي، على حساب ما هو جغرافي عسكري، كما أنّه في الشمال حُسمت رؤوس محدّدة في لحظات معينة لإسقاط إمكانية ترسيخ مفهوم المناطق العازلة أيضاً…
يبدو الأمر في الجنوب أكثر وضوحاً، باعتبار أنّ الجنوب له خصوصية مختلفة عن الحدود الأخرى، فهناك كيان الاحتلال الذي كان يرتّب لمفهومين اثنين، الأول رئيسي والآخر احتياطي، فالأول كان يحاول من خلاله دعم الأردن لإنشاء منطقة عازلة على حدوده، لكنّه فشل مع الأردن في ذلك، فعمل على انزياح المعنى باتجاه الحدود السورية مع الأراضي العربية المحتلة، فلم ينجح في تشكيل يمكّنه من تمرير مفهوم المنطقة العازلة أو استنساخ تجربة وسيناريو لبنان سابقاً، بفضل الحضور للدولة السورية ولقواتها المسلحة، باعتبار أنّ هذه الصفة الحاسمة كانت معدومة خلال السيناريو مع لبنان، الأمر الذي دفع كيان الاحتلال إلى البحث عن سيناريو جديد، فلم يجد أفضل من «حزام آمن» يمكنه أن يحاكي في أهدافه أهداف منطقة عازلة.
«الحزام الآمن» كما «المنطقة العازلة» تحتاج إلى رؤوس أو مفاصل اتكاء، وهو ما كانت تشتغل عليه قيادة كيان الاحتلال بالتوافق والتوازي والتنسيق مع الحكومة الأردنية، في هذه اللحظة بالذات لم تعد استراتيجية «المشاغلة» قادرة على أن تؤدي ما هو مطلوب منها في مواجهة الصاعد الجديد، فكان ضرورياً وأساسياً أن تنتقل الماكينة العسكرية السورية إلى استراتيجية أخرى، وهي استراتيجية «حسم الرؤوس»، بمعنى حسم المتكآت التي يمكنها أن تساهم في حماية الجغرافيا وتأهيلها «للمنطقة العازلة» أو «للحزام الآمن».
استراتيجية «حسم الرؤوس» ستحول دون إقامة «الحزام الآمن»، من خلال استهداف الرؤوس الكفيلة جغرافياً بإسقاطه، غير أنّ الحسم النهائي لجهة تنظيف الجغرافيا كاملة قد لا نضطر له حالياً!.