بين يوم وآخر، يُطلّ مسؤول إيراني ما ويتحدّث عن نفوذ طهران المُتنَامي في كل من بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء وغيرها، أو عن قوّة إيران السياسية-العسكريّة في مواجهة مختلف المشاريع التي تُحضّر للمنطقة، أو عن الإنتشار الإيراني المُتصاعد في الشرق الأوسط، وحتى عن عودة الإمبراطوريّة الإيرانية "كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حالياً"(1)، وعن منع إيران "سقوط بغداد ودمشق وأربيل بأيدي مُتطرفي داعش"(2). فهل هذا يعني خلط أوراق خريطة وتحالفات الشرق الأوسط الكبير؟
بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ مشاريع "الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية" للمنطقة ليست بجديدة، بل هي بدأت منذ نجاح ثورة آية الله الخميني في الإطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979. لكن النجاح في "تصدير الثورة"، إذا جاز التعبير، بدأ بالظهور الفعلي والميداني في السنوات القليلة الماضية، وهو أخذ طابعاً إعلامياً فاقعاً في الفترة الأخيرة، في إطار الحرب النفسية-المعنويّة التي تخوضها إيران مع خصُومها الكُثر إقليمياً ودَولياً، وبهدف تعزيز أوراقها التفاوضية مع دول الخمس زائد واحد بشأن ملفّها النووي، علماً أنّ هذه المفاوضات ستُعاود في سويسرا نهاية الأسبوع الحالي بلقاء بين وزيري خارجية إيران محمد جواد ظريف وأميركا جون كيري. لكن هذا التحدّي الإعلامي الإيراني يترافق مع نتائج مَيدانية ملموسة في أكثر من دولة ومنطقة، ومع تدخّل عسكري مباشر في بعض الأماكن، وعبر قوى حليفة مُمَوّلة ومُسَلّحة من "الحرس الثوري الإيراني" في أماكن أخرى. ولا شك أنّ إيران قد تجاوزت فكرة "الهلال الشيعي" التي كانت تُتهم به من قبل خصومها، حيث أنّ مشاريعها الحالية للمنطقة أكبر وأوسع، وهي تُذكّر بالفعل بالإمبراطوريّة الفارسيّة عبر التاريخ(3). فنفوذها السياسي والعسكري نقلها إلى تخوم كل من الحدود الإسرائيليّة (عبر كل من لبنان وسوريا)، والحدود السعوديّة (عبر كل من العراق واليمن)، والحدود التركية (عبر كل من العراق وسوريا)، وجعلها تتحكّم أيضاً بحركة السفن في مضيق "هرمز" الإستراتيجي (بحكم موقعها الجغرافي)، وفي مضيق "باب المندب" (بحكم نفوذها في اليمن) الذي يُعتبر المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. ونجحت إيران أيضاً في تشكيل محور سياسي عابر للبلدان تحت عنواني "المقاومة" و"الممانعة"، لتعزّز نفوذها الإقليمي وثقلها العالمي كلاعب مُهمّ لا يُمكن تجاوزه.
في المقابل، يعمل أكثر من طرف إقليمي على تشكيل نوع من الحلف الجديد لمواجهة "عودة الإمبراطوريّة الإيرانيّة"، وبحسب أكثر من محلّل سياسي غربي فإنّ حركة اللقاءات السياسيّة الناشطة التي قادتها الرياض، منذ إستلام الملك سلمان بن عبد العزيز السلطة، صبّت في جزء كبير في هذا السياق. وما إستقباله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بشكل منفصل، إلا محاولة لبحث سُبل مواجهة توسّع النفوذ الإيراني، ودراسة سُبل الإستفادة من إلتقاء مصالح الدول الإسلامية الثلاث الرئيسة في المنطقة، أي السعودية ومصر وتركيا، والعمل على حلّ الخلافات في ما بينها وعلى تقليص التباينات في النظرة إلى ملفّات المنطقة. وبحسب المعلومات المُسرّبة من قبل أعضاء في وفود هذه القيادات الإقليميّة النافذة، فإنّ الرياض شدّدت على ضرورة تجاوز خلافات السنوات الأخيرة، قبل فوات الآوان. فالدعم التركي-القطري لحكم "الإخوان المسلمين" في مصر، وللكثير من الحركات الإسلاميّة المتشدّدة في المنطقة، في مقابل دعم السعودية وباقي دول الخليج لخصوم الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي ولجماعات إسلامية أخرى، أدّى إلى تضارب مصالح هذه الأطراف كافة، وإلى تقاتل الجهات المحسوبة عليها في ما بينها، الأمر الذي ساهم في أربع تحوّلات كبرى، هي:
أوّلاً: تسبّب بإضعاف المعارضة السوريّة، وفي تآكل القوى المعتدلة فيها، لصالح نموّ الجهات المتشدّدة، وبالتالي في صمود النظام السوري بعد أربع سنوات من الحرب الشرسة.
ثانياً: سمح للنظام الإيراني بالتمدّد والتوسّع ليُعزّز أوراقه الإقليمية والدوليّة، وليفرض شروطه في أكثر من ساحة، مُستفيداً من إلتقاء مصالحه مع دول الغرب لمواجهة الموجة الإرهابيّة الجديدة.
ثالثاً: دفع بالنظام العراقي إلى الإلتحاق كلّياً بالمشروع الإيراني، مُستفيداً من التوافق العالمي على محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، وذلك على حساب تقلّص النفوذ السنّي في البلاد إلى أدنى درجة.
رابعاً: تسبّب بتنامي نفوذ ميليشيات "أنصار الله" المدعومة من طهران في اليمن وإلى سيطرتها على صنعاء في 21 أيلول الماضي، ثم على القصر الرئاسي في 21 كانون الثاني الماضي، ليفرّ الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إلى عدن ويتّهم "الحوثيّين" بالإنقلاب على السلطة.
وتحاول القيادة السعودية حالياً، تقريب وجهات النظر بين تركيا ومصر، بعد أن نجحت إلى حدّ ما في إحتواء التمايز القطري. يُذكر أنّ تركيا تطلب من مصر التراجع عن الأحكام القضائيّة القاسية بحقّ قيادات وبعض أعضاء "الإخوان المسلمين" والإفراج عنهم فوراً، والسماح بالعمل السياسي الحرّ والديمقراطي، في المقابل، تطلب القيادة المصريّة من القيادة التركيّة، التوقّف فوراً عن دعم الجماعات المسلّحة غير الشرعيّة في ليبيا، والتوقّف عن تهديد أمن مصر عبر تحالفها ودعمها المالي والسياسي للمعارضة. كما تعمل القيادة السعودية على إيجاد خطّة مواجهة في اليمن، حيث أقنعت قادة دول مجلس التعاون في عقد مؤتمر في الرياض قريباً، بناء على طلب الرئيس هادي بضرورة "التمسّك بالشرعيّة ورفض الإنقلاب"، علماً أنّ المملكة السعودية التي تخشى من تنامي نفوذ "القاعدة" في جنوب اليمن، هي أيضاً في سباق مع "الحوثيّين" الذين يسعون لتثبيت إنقلابهم العسكري عبر عقد إتفاق مصالح مُشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية، بعنوان مواجهة الإرهاب في اليمن في مقابل الحصول على إعتراف غربي بحكم "الحوثيّين". وتدفع القيادة السعودية، لتعزيز العلاقات مع كل من قيادتي تركيا ومصر، إنطلاقاً من النقاط المُشتركة المتوفّرة، بين كل من السعودية وتركيا ومصر، لجهة رفض السيطرة الإيرانية على المنطقة، ورفض بقاء الرئيس السوري بشّار الأسد في الحُكم (مع تسجيل التمايز المصري في هذا الموضوع)، ورفض تهديد الأمن الداخلي للدول المعنيّة من قبل أطراف خارجية أو جماعات موالية لها، ورفض تهميش أهل السُنّة في كل من العراق واليمن وغيرها، ورفض التعرّض للحكم القائم في البحرين، إلخ.
باختصار، إنّها مرحلة خلط أوراق خريطة وتحالفات الشرق الأوسط الكبير، وتاريخياً هذا النوع من التحوّلات الكبرى لا يتمّ بسرعة، بل عبر مخاض عسير يستمرّ لسنوات...
(1) بحسب تعبير مستشار الرئيس الإيراني، علي يونس الذي رأى أنّ "كل مناطق الشرق الأوسط إيرانيّة"، قائلاً: "سندافع عن كل شعوب المنطقة، لأنّنا نعتبرهم جزءاً من إيران، وسنقف بوجه التطرّف الإسلامي والتكفير والإلحاد والعثمانيّين الجدد والوهّابيّين والغرب والصهيونيّة".
(2) كما قال أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، الذي أكّد أيضاً أنّ بلاده باتت على ضفاف المتوسّط وباب المندب.
(3) تأسّست الإمبراطوريّة الفارسيّة عام 559 قبل الميلاد، وهي كانت من أعظم وأكبر السلطات التي حكمت المنطقة قبل العصر الإسلامي، وهي مرّت بطبيعة الحال عبر التاريخ بحقبات توسّع لنفوذها، وكذلك بحقبات إنكماش.