لم يكن أحد يتخيّل أنّ التظاهرات الشعبيّة التي إنطلقت في سوريا مُنتصف آذار 2011، أيّ في خضمّ موجة تغيّر بعض الأنظمة العربيّة وإسقاط حُكّامها، ستتحوّل إلى حرب ضارية(1) متعدّدة الجنسيّات، وأنّها ستدخل عامها الخامس من دون وجود آفاق تعد بحلّ قريب. فكيف حصل ذلك، وماذا سيحمله المُستقبل لسوريا بعد أربع سنوات من القتل والدمار؟
من المعروف أنّ الحروب، وفي حال طال زمانها، تتحوّل بشكل دراماتيكي، بحيث تتغيّر الأطراف التي تُشارك فيها، وتلك التي تُموّلها، وتتضارب الأهداف وتتبدّل المصالح لكل من له علاقة بهذه الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا تماماً ما حصل في سوريا، حيث طغت التحوّلات في كل من مصر وليبيا عليها، وأدّى تضارب مصالح الجهات السورية المعارضة إلى تشتتها. وبالنسبة إلى توقّعات الخبراء الغربيّين في السياسة الدَوليّة، فإنّ واقع ومستقبل سوريا يُختصر بالتالي:
أوّلاً: إنّ الرئيس السوري بشار الأسد هو اليوم أقوى من أيّ وقت مضى، كونه نجح بدعم إقليمي ودَولي كبير، في منع إنهيار نظامه، وفي الإحتفاظ بسيطرته على عدد كبير من المدن الرئيسة في سوريا، وفي طليعتها العاصمة دمشق، وفي الإحتفاظ بالحد الأدنى من مفهوم الدولة. والأهمّ أنه نجح في تحويل الصراع من ثورة شعبيّة لإسقاط نظام ديكتاتوريّ ولنيل الحريّة وتعميم الديمقراطيّة، إلى حرب دمويّة إقليميّة-دوليّة ضدّ منظّمات إرهابيّة. وهذا الأمر يصبّ في صالحه في المواجهة، خاصة وأنّ الإعلام العالمي، وتلقائياً الرأي العام الدَولي، يتأثّر بالصورة التي تعكسها التغطية الإعلامية التي تتركّز في المرحلة الحالية على إرتكابات الجماعات الإرهابيّة بحقّ الإنسانيّة.
ثانياً: إنّ القرار الروسي بدعم النظام السوري الحاكم في المحافل الدَوليّة، وعبر جسر سلاح جوّي مفتوح، غير قابل للتبدّل في المُستقبل القريب، في ظلّ سوء العلاقات الروسيّة-الغربيّة الذي يدفعها إلى مزيد من التشدّد. كما أنّ القرار الإيراني بدعم النظام السوري بالمال والمقاتلين غير قابل للتبدّل بدوره، لا في المُستقبل القريب ولا البعيد، إنطلاقاً من أهداف عقائدية وإستراتيجيّة تُطبّقها القيادة الإيرانيّة منذ نجاح "ثورتها الإسلاميّة" في السيطرة على الحُكم في مطلع الثمانينات. وبالتالي، وبغض النظر عن خسارة ميدانية أو سياسيّة هنا، وعن ربح ميداني أو سياسي هناك، فإنّ النظام السوري سيبقى ينال ما يحتاجه من دعم بالمال والسلاح والرجال، للحفاظ على قدرته على الصمود، مهما بلغ عدد المُقاتلين الذين يحملون السلاح بوجهه.
ثالثاً: إنّ الجيش السوري، وعلى الرغم من كل ما تعرّض له من خسائر بشريّة، ومن حالات فرار وإنشقاق، بقي متماسكاً إلى حدّ بعيد، وصار مدعوماً من أفواج شعبيّة مقاتلة كبيرة جرى تشكيلها وتدريبها في السنتين الأخيرتين بمساعدة إيرانية-لبنانيّة، وتحمل إسم "قوّات الدفاع الوطني". وهي لعبت دوراً فعّالاً في تأمين ظهر الجيش السوري في كثير من المواقع وجبهات القتال، وبدأ إستخدامها أخيراً في معارك هجوميّة، إلى جانب المُقاتلين الأجانب الداعمين للنظام.
رابعاً: إنّ تنظيم "داعش" الإرهابي الذي يُسيطر على مساحات واسعة في سوريا(2)، يعمل وفق أهداف مختلفة تماماً عن أهداف المعارضة السورية التي كانت أطلقت الإحتجاجات المناهضة للحكم قبل أربع سنوات، حيث أنّه يرمي إلى تثبيت أسُس "دولة الخلافة" المزعومة، وإلى تطبيق "أحكام سلطته" فيها، لذلك هو يُقاتل كل طرف لا يُعلن خضوعه له. وهذا الإختلاف الإستراتيجي أسفر عن مواجهات عدّة بين "داعش" وباقي فصائل المعارضة فاقت بأشواط مواجهات التنظيم الإرهابي المحدودة مع الجيش السوري، وهو سيؤدّي في المستقبل إلى مزيد من المواجهات بسبب تضارب المصالح والأهداف كلّياً.
خامساً: إنّ كل برامج التدريب الأميركيّة والغربيّة الخاصة بفصائل سوريّة معارضة، لا تزال في بداياتها وهي ستكون محدودة الحجم والفعالية حتى عند إنتهائها، حيث لا قُدرة لهذه القوى التي يجري إعدادها بإحداث أيّ تغيير ميداني فعلي، وكل ما ستكون قادرة على فعله هو إرشاد سلاح الجوّ الغربي لضرب أهداف تابعة لتنظيم "داعش"، والسيطرة على مناطق جغرافية صغيرة قد يتمّ إجبار مُسلّحي "داعش" على إخلائها في المُستقبل. وقد أدّى كل من النقص في التمويل والدعم، وتراجع المعنويات في صفوف المقاتلين المعارضين المُصنّفين "مُعتدلين"، إلى تراجع نفوذهم وقوّتهم بشكل كبير. وإكتمل هذا التقهقر مع إنهيار حركة "حزم"(3) التي كان الغرب يُحاول تحويلها إلى نواة لقوّات سورية مُعارضة شبيهة بالصحوات التي جرى تشكيلها في العراق لمحاربة تنظيم "القاعدة".
سادساً: إنّ المحور العسكري-السياسي الذي يدعم النظام السوري يعمل في سوريا، وفق أجندة إستراتيجيّة مدروسة بدقّة، وهو يُركّز عمليّاته القتالية في مواقع لها تأثير بالغ على مجريات كامل الحرب. وحالياً، عين النظام والقوى الحليفة هو على معركة الجنوب السوري، بهدف قطع الطريق على أيّ إمكانيّة لإقامة منطقة تهديد مستقبلي لدمشق، مدعومة من الخارج، كما كانت بنغازي بالنسبة إلى طرابلس الغرب في ليبيا. وبالتالي، ممنوع بالنسبة إلى النظام السوري أن تنجح "المُعارضة المُعتدلة" المدعومة من الغرب في الجنوب السوري على الحدود مع الأردن، في تشكيل وحدات مقاتلة كبيرة وأن تتمدّد جغرافياً نحو العاصمة.
سابعاً: إنّ المعارضات السوريّة المتعدّدة(4) المُسيطرة ميدانياً في سوريا، هي بأغلبيّتها غير مُرتبطة بما يُطلق عليه إسم "الإئتلاف الوطني السوري"، وهي بالتالي غير معنيّة بأيّ تسويات معه، ورضوخها مرتبط بقطع التمويل والتسليح عنها والذي يتمّ عبر أكثر من طرف وقناة.
ثامناً: إنّ الدور التركي حاسم في التأثير على الأحداث السورية، وتجاهله يعني حُكماً المساهمة في إطالة عمر الأزمة، مثله مثل دور دول الخليج العربي، وطبعاً إيران. ولا شك أنّ عدم وجود رؤية واضحة وموحّدة أميركية وأوروبية وروسيّة يساهم بدوره في إطالة النزاع في سوريا، حيث أنّ ما يحدث حالياً هو دفع الملفّ السوري إلى مرتبة متأخّرة في ترتيب الأوّلويّات الإقليمية والدولية، في إنتظار مُتغيّرات لم يحن وقتها بعد.
في الختام، على كل من يتوقّع نهاية قريبة للحرب في سوريا أن يتذكّر أن عدد الأطراف الذين يتواجهون في هذه الحرب بات كبيراً إلى درجة أنّ لقاء ممثّل من هنا ومسؤول من هناك فقد قيمته كلياً، حيث أنّ تشعّب وتداخل الملفّات العالقة بين عشرات الأطراف المنضوية في الحرب السورية حالياً، إن كان عبر المال أو السلاح أو الرجال أو حتى الضغط السياسي، صار يَستوجب إتفاقات على مستوى إقليمي-دولي رفيع. وحتى في حال التوصّل لذلك، من الضروري أن تكون هناك قدرة على فرض أيّ إتفاق-تسوية بالقوّة على الأرض. وفي الإنتظار، الأكيد أنّ العام 2015 سيكون بمثابة سنة إضافية للحرب السورية الدموية، للأسف الشديد، حيث أنّ النهاية ليست قريبة، وأسسها السياسيّة والعسكرية لم تنضج بعد.
(1) سقط في الحرب السوريّة حتى اليوم أكثر من 210,000 قتيل، إضافة إلى نزوح وتهجير نحو 10 ملايين نسمة، إن داخل سوريا أو إلى خارجها، خاصة إلى دول الجوار. وتسبّبت الحرب بخسائر مادية وإقتصاديّة بالغة تجاوزت أخيراً عتبة المئتي مليار دولار أميركي.
(2) خاصة في مدن الرقّة، ودير الزور، والحسكة، والقائم، وبعض الأجزاء من حلب.
(3) وكان سبقه قبل ذلك إنهيار "جبهة ثوّار سوريا" أيضاً.
(4) يُقدّر عدد المنظّمات المُصنّفة ضد النظام السوري بنحو 70 فصيلاً مختلفاً، الأقوى من بينها هو تنظيم "داعش" مع نحو 20000 مقاتل في سوريا، تليه "جبهة النصرة" مع نحو 15000 مقاتل.