أسدل الستار على الانتخابات «الإسرائيلية» الأكثر التباسات ومفاجآت، وهي التي حظيت باهتمام واسع من قبل الكثير دول العالم، ومن قبل المراقبين ووسائل الإعلام والكتاب والباحثين ومراكز الدراسات والأبحاث، ومؤسسات استطلاع الرأي. ووقف في أوائل كلّ هؤلاء السلطة الفلسطينية برئيسها ومؤسساتها. وبالتأكيد عناوين الاهتمام والترقب لهذه الانتخابات. ومبرّر اهتمام السلطة الفلسطينية يأتي من خلفية تأثير هذه الانتخابات على القضية الفلسطينية وعناوينها، ومجريات الأحداث وتطوراتها الحاكمة للعلاقة القسرية بين السلطة الفلسطينية و«الإسرائيليين»، وتحديداً بعد التوقيع على «اتفاقات أوسلو» العام 1993 ومع ما رافقها من ربط لقضايا حيوية وخصوصاً الاقتصادية والحياتية والأمنية والعسكرية. ومتمّمات «أوسلو» المتصلة بمفاوضات الحلّ النهائي وعناوينه بموجب أوسلو كان من المُلزم التفاوض حولها في العام 1998 .
ولكن جرياً على عادة المكوّنات السياسية وائتلافاتها الحزبية التي تخوض انتخابات «الكنيست»، حاذرت خلال مرحلة التحضير لهذه الانتخابات الخوض في الموضوع الفلسطيني والمفاوضات مع السلطة. وقد انتهت هذه الانتخابات إلى فوز حزب «الليكود» ورئيسه بنيامين نتنياهو، من خارج ما توقعته وسائل الإعلام ومراكز ومؤسسات استطلاع الرأي، حيث فاز نتنياهو بـ30 مقعداً، مقابل 24 مقعداً لتحالف هرتسوغ وليفني «المعسكر الصهيوني». وقد عزت أوساط فلسطينية ومتابعة البرامج الانتخابية التطرّق إلى العناوين الفلسطينية ومستقبل العملية السياسية مع منظمة التحرير والسلطة، على أنّ هذا الأمر حالة وقتية تفرضها الانتخابات وتشكيل الحكومة.
هذا كذب بالتأكيد، لأنّ الحقيقة التي لا تقبل التأويل أو التشكيك بها، أنّ الكتل الحزبية الرئيسية تتقاطع عند مسألة واحدة لا ثانية لها، وهي منع الفلسطينيين من تحقيق تطلعاتهم الوطنية على أرضهم الفلسطينية، وفق استراتيجية صهيونية محدّداتها حدود الدولة العبرية وأمنها ويهوديتها، ومنع عودة اللاجئين والقدس عاصمة موحدة لدولتهم المزعومة. وهي من أجل ذلك عملت وتعمل على تجريد الفلسطينيين من كلّ إمكانية لتحقيق هدفهم في أن يكون لهم دولة ذات سيادة وطنية خالصة وعاصمتها القدس. وكلّ ما عداها من طروحات على أنها أفكار مرنة تقدّمت أو تتقدم بها «إسرائيل» هي شكلية لا تمسّ المضمون.
بمعنى آخر، هو أنّ فهم قادة الكيان الصهيوني للسلام قائم على أساس أنّ التسوية يجب أن تصبّ في خدمة «إسرائيل». وجاء تصريح نتنياهو وقبل يوم واحد على فتح مراكز الاقتراع لهذه الانتخابات بقوله «إنني في حال عودتي إلى رئاسة الحكومة، فإنني لن أسمح بأن تكون هناك دولة فلسطينية، والقدس لن تقسّم وستبقى موحدة كعاصمة لدولة إسرائيل»، ليُدلّل على أنّ الورقة الفلسطينية قد تمّ استخدامها من أجل كسب أصوات الناخبين. الذين دللوا من جانبهم أيضاً على الكراهية والعنصرية التي يضمرونها للفلسطينيين، وقد أعلنوا عنها بشكل فجّ عندما صوّتوا لحزب الليكود ورئيسه نتنياهو على برنامجه ورؤيته السياسية، وبالتالي أوصلوه مرة جديدة إلى صدارة نتائج هذه الانتخابات، التي وعلى الدوام يجب ألاّ يغيب عن بالنا أنّ هذه الأحزاب هي صدى وانعكاس لمواقف «المجتمع الإسرائيلي» الذاهب نحو المزيد من التطرف والإرهاب.
في الانتخابات السابقة كان هناك من يعوّل على ما يُسمّى بالقوى اليسارية في «إسرائيل» ومن ضمنها حزب العمل! ورغم ذلك لم يصل الفلسطينيون إلى شيء بعد انتهاء أية انتخابات وتشكيل الحكومات في الكيان. أما الانتخابات اليوم وبعد أن تلاشت «قوى اليسار الإسرائيلي» وتحوّل حزب العمل إلى حزب يميني صهيوني إذا ما جاز التعبير. هل هناك من إمكانية للرهان على أي من هذه الأحزاب التي خاضت أو تخوض الانتخابات؟ الخارطة الانتخابية وائتلافاتها تؤشر بشكل واضح أن من تنافسوا أو يتنافسون على مقاعد «الكنيست» هم أحزاب يمينية بالكامل، والحديث عن «حزب ميرتس» اليساري وفق التصنيف «الإسرائيلي»، لا يقدّم ولا يُغيّر في المعادلة الداخلية للكيان وتوجهاته السياسية في شيء، والتي أثبتت نتائج الانتخابات هذه الحقيقة التي قادت زعيمته «زهافا جالؤون» إلى الاستقالة على خلفية إخفاق حزبها في هذه الانتخابات. فائتلاف العمل بزعامة هيرتزوغ، وحزب الحركة بزعامة تسيفي ليفني قد اختارا تسمية لائتلافهما «المعسكر الصهيوني» وهذه هي حقيقة كلّ الأحزاب «الإسرائيلية» بأنها صهيونية، ولكن استخدام هيرتزوغ وليفني لهذا الاسم يأتي في سياق المزايدة على نتنياهو وحزبه الليكود، وحتى الأحزاب الأخرى لكلّ من ليبرمان ونفتالي بنيت في أنهما الأكثر صهيونية أي هيرتزوغ وليفني، وهي أيضاً خطوة تهدف لاستمالة الناخب «الإسرائيلي».
في اليوم التالي على انتهاء العملية الانتخابية بفوز نتنياهو وحزبه «الليكود» في انتخابات «الكنيست» في دورتها العشرين. السؤال المطروح على السلطة ورئيسها أولاً، ومن ثم على منظمة التحرير ثانياً. عن طبيعة الرد الفلسطيني على نتائج هذه الانتخابات؟ ومن دون استباق ما ستُقدم عليه كلّ من المنظمة والسلطة للردّ على هذه العنصرية الصهيونية المتمادية، والشاهرة لسيف إرهابها في التهويد والاستيطان والاغتيالات والاعتقالات وتواصل العدوان والحصار على قطاع غزة. يجب القول لا بدّ من استخلاص العبر في رهاناته الخاسرة على سياق سياسي من المفاوضات التي ثبُت عقمها وفشلها، ولم تجلب للقضية الفلسطينية سوى المزيد من التبديد في عناوينها وحقوقها الوطنية.
وعلى أهمية التصريحات التي أدلى بها أكثر من مسؤول في السلطة والمنظمة، ولكنها غير كافية، بل ومسيئة، لسبب بسيط أن هذه التصريحات أصبحت ممجوجة ومكررة. ولو قُدر جمع هذه التصريحات، لأهّلت أصحابها الدخول إلى كتاب غينتس للأرقام القياسية. والاستخلاص يجب أن يستند إلى حقيقة واحدة على ضوء الممارسات والسياسات «الإسرائيلية»، ومن ثم على نتائج الانتخابات التي أعادت نتنياهو بقوة إلى رئاسة الحكومة وهو لن يعطي السلطة أي شيء بالمطلق ويستخدم المفاوضات فقط لتقطيع الوقت، وذرّ الرمال في عيون المجتمع الدولي. ونتنياهو الذي سيجد نفسه مطلق اليدين وأكثر راحة في تعاطيه مع السلطة الفلسطينية. وستكون الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أكثر عجزاً في فرض أيّ شيء على نتنياهو وحكومته المقبلة في ما يخصّ المفاوضات والعملية السياسية، لأنّ فوزه وبكلّ بساطة هو استفتاء على برنامجه ورؤيته ونهجه، خصوصاً في ما يتعلق بـ»إسرائيل» ويهودية الدولة على حساب الفلسطينيين.
في ظلّ التجارب المتكرّرة مع الكيان وقياداته وحكوماته، لا بدّ من الإقلاع عن الرهانات الخاسرة على أنّ هناك من داخل هذا الكيان بمكوّناته السياسية وأطيافه السياسية من هو مهتمّ أو مكترث لعملية سياسية تفاوضية مع السلطة ومنظمة التحرير سواء ما سُمّي باليمين أو اليسار. وقد يكون المستحسن عودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، على قاعدة من تعرف ممارساته وسياساته، أفضل ممن ستتعرّف عليه، والمقصود هنا هرتسوغ الذي كان يريد في حال نجاحه أن يأخذ السلطة نحو التدويخ السياسي في مفاوضات جديدة، وهذا كان من شأنه أن يُسهم في رفع العزلة التي تعاني منها «إسرائيل»، ولو بشكل جزئي. والدرس الفلسطيني الأهمّ على ضوء نتائج هذه الانتخابات هو أنّ السكين «الإسرائيلية» كانت وستبقى واحدة ، مهما كانت اليد التي تمسك بها. وما يردّ هذه السكين إلى نحرها هو إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني، وأساسه الانحياز إلى خيار الشعب الفلسطيني في المقاومة.