غير مستغرب أن يستهدف الإرهابُ التكفيريُّ تونسَ العريقة بحضارتها في متحفها وثورة ياسمينها. وعدم الاستغراب هذا ناتج من موقعها، وما أنجرته في الآونة الأخيرة من ديمقراطيّة راقية متجذّرة في تربتها وعمق ثقافتها وأدبياتها منذ القدم، على الرغم من الفجوات العديدة في تاريخها المعاصر. وما يمكن استذكاره بأنّ تجربة انتصار الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الفريدة من نوعها في تاريخ تونس المعاصر أثبتت قدرة التونسيين على التحرر من الحروفيّة الدينيّة والصنميّة القابضة على حياة الإنسان في المأكل والملبس والمشرب كما قال الكاتب الفرنسيّ غبريال لوبرا.
لا تشبه الديمقراطية التونسيّة بحيّزها التجسيديّ شيئًا من العالم العربيّ. التونسيون بها ثاروا على حكم الإخوان كما ثار المصريون بدورهم حين وجدوا تلك الشريحة تخطف الدولة إلى المجهول والجهالة أو الجهل. من راقب المشهد بحجم القتلى والجرحى وغالبيتهم أجانب، في متحف مفتوح على تلاقح حضاريّ وثقافيّ بين الأمم، اكتشف منسوب الحقد على الدولة المولودة من رحم الشعب، وعلى آفاق رحبة تشاء التواصل مع الحداثة بليبرالية استعذبها ويستعذبها التوانسة في رؤيتهم لأنفسهم وبلدهم والعالم. فهم لم يقصوا أنفسهم عن الإسلام، ولكنّهم قرأوه مساحة ضياء وتفكير، وليس مدى للتجهيل والتكفير. فالتكفير ممجوج من العقل، وملفوظ من الجوف. هكذا يفهم موقف الرئيس السبسي، الذي قال: "إننا في حرب مع الإرهاب، وهذه الأقليّات الوحشيّة لا تخيفنا، وسنقاومها إلى آخر رمق بلا شفقة ولا رحمة". تونس أدخلت في حرب على الإرهاب، والعالم العربيّ كلّه مستهدف من الإرهاب، لكونه حالة مزروعة ومدعومة من قوى إقليميّة وعربيّة تستهلكه في حروبها ما بين ليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن، من دون أن ننسى تأثير ذلك على واقع لبنان وتركيبته الطائفيّة.
ليبيا الواقعة على حدود تونس، والتي على أرضها ذبح الإرهابيون العمال الأقباط، هي الباب الذي دخل منه الإرهابيون ونفّذوا عمليتهم. وزير الخارجيّة التونسيّة الطيّب البكّوش قال كلامًا دقيقًا في هذا الإطار يجدر بالمتابعين تشخيصه بدقّة: "إن ما يوفّر تربة خصبة للإرهاب هو عدم الاستقرار وغياب الدولة في ليبيا، وإذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه فجميعنا مهدّدون... نحن ندعم أيّ تحرّك يهدف إلى التوصّل إلى حلّ في ليبيا، من أجل أن تكون هناك حكومة واحدة قادرة على السيطرة على الأراضي الليبيّة، تلك هي الوسيلة الوحيدة للسيطرة على الإرهاب". ما قاله البكّوش يظهر بوضوح الموقع المتفلّت لليبيا في التأثير على المحيط الإفريقي من مصر إلى تونس والجزائر، وقد كانت الأخيرة مسرحًا لصراع مرير بين الدولة والإرهاب لحقبة طويلة من الزمن، وربما المغرب. ليست تونس بهذا المعنى المنطلق للإرهاب وإيناعه، بل هي المصبّ الملتهب جدًّا بهذا الحراك الدامي، والذي يحاول أن يستشري كالسرطان في جذورها بعدما أظهر الشعب مناعة واضحة في مقاومته ودحره بأرقى مظهر بهيّ وهو المظهر الديمقراطيّ. يحاول الإرهاب أن يستعمل هذه الأرض ساحة من ساحاته، وقد اتضح من دون التباس، أنه سواء أطلّ من ليبيا باتجاه المحيط، أو من العراق أو سوريا باتجاه المحيط يهدف إلى إلغاء الحدود، بنير عقائديّ تشريعيّ تائق إلى ولايات إسلاميّة محصورة بتكتلاّت جغرافيّة وتنظيمات على غرار تنظيم "داعش".
خطورة هذا الإرهاب الذي ضرب تونس، أنّه يؤكّد بوضوح تامّ بأنّ الأرض لا تحوي مداميك احتراب مذهبيّ ملتهب بقدر ما تحوي مداميك احتراب بنيويّ في الدائرة السنّية عينها، بين إسلام متطرّف وتكفيريّ، وإسلام ليبرالي يطلّ على الحياة بنظم وتشريع مستلهِم للعلمانيّة الحديثة القائمة في أوروبا، وتونس غير بعيدة عنها في الأصل بثقافتها الفرانكوفونيّة. ويؤكّد ما حصل في تونس، التهاب الأرض كلّها من المنطقة الإفريقية وصولاً إلى المنطقة المشرقيّة، وكأنّ توقيت ما حصل متماه جدًّا مع محاولات نسف التفاوض الأميركيّ-الإيرانيّ، واستعادة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو الفرصة لتأليف الحكومة الإسرائيلية بعد فوزه وفوز حزبه بالانتخابات... كلّ هذا يتكدّس ويتكوّم في مشهدية واحدة، تختصر بأمرين: عرقلة التفاوض الذي قد ينجم عنه اتفاق يوقّع في الخامس والعشرين من الشهر، والقضاء على إسلام ليبراليّ من ناحية وقرآنيّ يتقارب مع الحداثة، بأطر اقتصادية وماليّة ومعيشية راقية.
ليست المسألة محصورة إذًا ببعد مذهبيّ محض. هناك ابتداع في الدائرة الإسلاميّة السنيّة والشيعيّة، لأنماط مذهبيّة تغتذي من الموروثات العقائديّة والتاريخيّة النافرة، والمسألة ممدودة ما بين المشرق والخليج العربيين، لكنّها في الدائرة الإقريقيّة هي محض بنيويّة، يصاحبها ابتداع لأزمة مسيحيّة-إسلاميّة في مصر وسوريا والعراق في المشرق بصورة حادّة. هناك في الأصل أزمة مسيحيّة وجوديّة، ولكنّ مسبباتها ليست إسلاميّة. خطورة الواقع الراهن أنه قائم بتأويل صفة الحرب وحصرها في الإطار المذهبيّ الشيعيّ-السنيّ، فيما الرؤية التكفيريّة موغلة بحرب تكوينيّة وجذوريّة بحروفيّة دامية على المسيحيين والمسلمين بلا تمييز بين مذهب وآخر. الابتداع المنطلق من روحيّة التاويل وتأثيره، وحركية انغراسه في التوظيف السياسيّ المتدرّج من بعض الدوائر الكبرى والصغرى له معنى واحد ومحتوى واحد يقوم على ترميد المنطقة من إفريقيا إلى الخليج والمشرق العربيّ بهولوكست أو مجموعة هولوكوست يقودها متوحشون ضمن مخطّط يغتذي منه العقل الاجرامي على حساب المسيحيين والمسلمين، ويملك القدرة على استثمار ثروات المنطقة من عقليّة وثقافيّة ونفطيّة وماليّة وأخلاقيّة. لقد كتب غاي بيتشر منذ أكثر من شهرين في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيليّة، "إنتهى عصر "النفط" العربيّ... وبدأ "عهد" العصر الإسرائيليّ". عنوان كهذا، ليس له سياق توظيفي حصري في تلك الجغرافيا النفطيّة الخليجيّة، بل موظّف في معظم المدى العربيّ بحدوده البشريّة المحدود بعقل نام ونائم، لا يستيقظ على الرؤى بفعل الاستنباط الاستراتيجيّ للمخطّطات. هناك مؤامرة فاحشة، بلغت وحشيّتها على هذا المدى، و"نظريّة المؤامرة" Conspiracy theory التي حاول بعضهم نفيها تغطية "للنفاق الأميركيّ" لا تزال متحرّكة بهذا الإرهاب المستولد في كنفنا والمستورد من الخارج الذي صعق بتفلّته وتمرّده على الخطط المرسومة له.
لقد سئل هنري كيسنجر خلال سنة 1976، أنتم متهمون بحياكة المؤامرات ضدّ شعوب الشرق الأوسط، وقد طرح السؤال على خلفيّة الأحداث اللبنانيّة وما قيل عن محاولة تهجير المسيحيين، فما كان منه سوى أن أجاب سائله، وهو لبنانيّ، وأنتم متهمون بعدم إحباط مؤامراتنا وهذا طبيعيّ في العمل السياسيّ، لأننّا دولة لها مصالحها ومنافعها بحدود استراتيجيّة واسعة.
إنّ الحرب على الإرهاب، إن لم تقتلعه من جذوره، ستبقى في إطار النفاق. كل هذا يتراكم والعرب على موعد مع قمّتهم في القاهرة، في ظلّ كلام بدأ يتصاعد حول عدم دعوة مصر لسوريا بالحضور بتأثير من السعوديّة. إذا صحّت تلك المعلومة فإنّ القمة العربيّة تبقى جوفاء، لأنّ تداعيات ما حصل في تونس من باب ليبيا والمحرّك بخيوط اقليمية وهي عينها تحرّك الإرهاب في العراق وسوريا، معطوف على دعوة داعشيّة للمنضوين بقتل ذويهم في السعوديّة، يستدعي قيام مناقشة عربيّة صريحة تحاول الخلوص إلى إيجاد شبكة أمان عربية في وجه عبثيّة هؤلاء التائقين لجعل الأرض رمادًا ويبابًا، والحياة سرابًا، والإنسان جحيمًا.