في العادة يجرى ضبط ثورات الطبيعة من زلازل وبراكين وفق مقياس «ريختر» العلمي، أما الثورات الأخرى هذه الأيام، بخاصة تفاوض الولايات المتحدة الأميركية والدول الخمس الكبرى زائدة ألمانيا والجمهورية الإسلامية في إيران، فيجرى ضبطها وفق مقياس «ريختر - النووي»، وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما يحدث في بعض المدن السويسرية من مفاوضات الساعات الأخيرة للتوصل إلى اتفاق ما في شأن الملف النووي الإيراني.
الكل ينتظر... «النووي»! من القضايا الكبيرة إلى الشؤون الصغيرة، والموعد «السحري» المحدد لــ «الحدث الكبير» هو الحادي والثلاثون من آذار (مارس) الحالي.
على صعيد الوقائع يمكن تسجيل المعلومات الآتية:
استناداً إلى مصادر مشتركة من الجانبين الأميركي والإيراني تم الاتفاق على «تسعين في المئة من القضايا الخلافية»، وتبقى نسبة العشرة في المئة، ما يعمل وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير خارجية إيران محمد جواد ظريف على تذليله. ومن الطبيعي، وبعد رحلة طويلة وشاقة من المفاوضات أن تصدر التصريحات المتناقضة أحياناً، وهذا ما يدخل ضمن «الحرب النفسية» في التفاوض، إذ المطلوب خروج كل فريق بـ «انتصار معين» وليس انتصار فريق على آخر، وهذه هي شروط لعبة الكبار.
واستناداً إلى مصادر مواكبة عن قرب للمفاوضات، تم التفاهم على الكثير من الشؤون التقنية أي ما يتصل بالقضايا العالقة كافة بين الطرفين الرئيسين، سواء لهجة رفع العقوبات عن إيران، أو إعادة الأموال المجمدة لها وهي بمليارات الدولارات.
ومن شأن هذه «الثمار» أن تنعكس على الأوضاع الداخلية لإيران ودول الجوار، على رغم وجود عدد من «الإيرانيين المحافظين» ما زالوا يعارضون تقديم «أي تنازل» لـ «الشيطان الأكبر»! فيما السلطات الرسمية ستخرج من نفق المفاوضات بإنجاز كبير تستطيع الدفاع عنه ضد المعارضين أو المحافظين المتشددين، وفي هذا المجال تؤكد معلومات المصادر الموثوقة على ناحية مهمة لا يجري التركيز عليها، ألا وهي أن كل هذه المفاوضات الصعبة والمعقدة ستنتهي إلى تأكيد «حق إيران في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية». إن ضغط المفاوضين الغربيين يتركز على وقف إنتاج المزيد من التخصيب الإيراني لليورانيوم، وأن لا يتجاوز نسبة الخمسة في المئة، فيما كان المفاوض الإيراني ولا يزال يصر على ما نسبته 20 في المئة. وقد تنتهي التسوية بتجميد إيران استخدام المزيد من الطاقة النووية «خلال عشر سنوات»، وهذا ما تركزت عليه مفاوضات الأيام الأخيرة.
وبقطع النظر عن الجوانب التقنية في الاتفاق، فسوف تنعكس نتائج المفاوضات على المنطقة بكاملها، ما يمنح خط المقاومة والممانعة قوة دفع إضافية، تطلق يد إيران والحلفاء في المنطقة لهيمنة جديدة مستوحاة من استخدام المفاوض الإيراني كل طاقاته وإمكاناته التفاوضية كي لا يخرج مهزوماً من الاتفاق.
وحيث إن الأمور مترابطة، فالأسئلة التي تطرح تدور حول «ترجمة» هذا النجاح الإيراني عملياً. ويقال في الوقت الحاضر، وهذا ما أعلنه رئيس الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايته والعائد إلى رئاسة الحكومة وفق نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة: «إن إيران تحتل أربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء». وفي ضوء ما سيعلن من تفاصيل عن «الاتفاق النووي» سيتم تفعيل ذلك ميدانياً، أي باللغة العملية: ازدياد النفوذ الإيراني وتوسعه في عدد من دول المنطقة. لكنه سيضع إيران والحلفاء والأصدقاء في مواجهة مباشرة مع «داعش» و «جبهة النصرة» وما تيسر من مجموعات إرهابية تمتهن الإرهاب لتحقيق غايات وأهداف غريبة ومريبة، حيث لا يمكن تشجيع هذه التيارات أو التعاطف معها. وهذا يعني متابعة الحرب على فصائل الإرهاب لسنوات آتية. وتقدر الدوائر الأميركية والغربية أن مقاومة إرهاب «داعش» والتوابع سيأخذ «سنوات عدة»، الأمر الذي يعني بقاء المنطقة في حالات اضطراب وعدم استقرار طوال هذه المدة، فكيف تتصرف الدول المعنية حيال هذه التطورات؟
ونبدأ في لبنان، حيث يخوض «حزب الله» و «تيار المستقبل» جولات متتالية من الحوار حول القضايا الخلافية الكبيرة والمعقدة. وعلى رغم إطلاق «تيار المستقبل» الحملات العنيفة ضد إيران والحليف «حزب الله»، فضوابط الوضع الداخلي تفرض الإبقاء على تواصل حتى بين أعداء السياسة والعقيدة. وعلى رغم ما شاب أجواء هذه الحوارات، تم التفاهم على خفض نسبة التوتر، واستؤنفت جلسات الحوار في مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة، حيث لا يملك الفرقاء سوى اعتماد الحوار والتفاوض مهما طال هذا المسار.
أما الدولة الثانية التي ستتأثر بالاتفاق النووي فهي سورية، حيث أشعل وزير الخارجية الأميركي جون كيرى عاصفة تصريحات بعد إعلانه استمرار التفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد للمراحل المقبلة. أما الإيضاحات التي صدرت فلم تخفف وطأة الكلام عن أن رأس النظام باق ولو «حتى إشعار آخر».
وحول الوضع العام في سورية معلومات تتصف بأهمية خاصة يجب التوقف عندها، ومنها التصريحات التي أدلى بها السفير الأميركي فريدريك هوف وهو العليم بشؤون المنطقة وشجونها، من إعداد التقرير الخاص بتفجير قوات المارينز في بيروت عام 1983 إلى القيام بمهام ولو محدودة في سورية. فهو يقول:
«إنني أتخوف من أن ينتصر في سورية تنظيم داعش والنظام معاً: بشار الأسد والإيرانيون سيعززون سيطرتهم فوق الأجزاء التي تعنيهم في سورية، كما سيحاول داعش تعزيز وجوده في جزء منها». ويضيف: «كي تكون إيران جزءاً من التحالف عليها أن تشد قواها في الاتجاه الذي يعتمده أطراف التحالف، لأنه ما دام رجلها بشار الأسد وعائلته وعشيرته في الصورة كجزء من سورية، فإن داعش سيجد في الأسد أهم من يجند مقاتلين له».
فالخطورة تكمن في أن الطرفين يمكن أن ينتصرا معاً، ومثل هذا الكلام يعني عملياً تقسيم سورية وفق ما أفرزته تطورات السنوات الأربع الماضية من الحرب، بخاصة الفرز السكاني والطائفي والعرقي، بحيث يتجمع أهل الطائفة العلوية في مدن ومواقع معينة، فيما تسعى الطوائف الأخرى وفي الطليعة أهل السنة، للوجود في مناطق جغرافية متقاربة.
إن الطرح الأميركي الجديد بالنسبة للوضع في سورية يقوم على المعادلة الآتية: «عش ودع غيرك يعيش»! وهل سيتم اعتماد هذه المعادلة بهذه السهولة؟! يجيب السفير هوف رداً على سؤال: هل سيقبل العالم بدولة «داعش» ضمن الدولة السورية؟ «لا أعتقد ذلك، لأن الوضع سيكون عامل زعزعة للاستقرار في شكل مستمر، لأن المزيج من اقتصاد الشبيحة في بقية سورية الأسد ووحشية داعش فيها سيتسبب باستمرار هرب الناس من هذين الجزءين من سورية إلى الدول المجاورة، وهذا سيكون عامل زعزعة دائمة للاستقرار في المنطقة».
وبعد...
أولاً إن العاصفة السياسية التي أحدثها تصريح جون كيري حول بقاء الأسد في صورة التفاوض لا تزال تعكس وجود الازدواجية في مواقف الدول الغربية حيال ما تشهده سورية. ذلك أن رفض هذه الدول وجوده وهو موجود فعلياً على الأرض يعني عدم التعاطي العملي والمباشر مع ما يجري.
لكن ما يمكن قوله وبقطع النظر عن تطورات الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة عسكرياً، وهو ما لا يزال يتراوح بين الكر والفر لأكثر من طرف، فإن الحاجة تدعو إلى بقاء الرئيس الأسد في السلطة إذا ما تم التفاهم على المراحل التالية من العملية الانتقالية التي تتحدث عنها الدول الغربية، وهذا يفترض بقاء سلطة معينة كي تعمل على «تسهيل» مهمة انتقال السلطة، على رغم أن الأمور لن تكون بهذه البساطة لجهة تخلي الأسد وأنصاره عن السلطة طبعاً، بل سيبقى التقاتل حتى الرمق الأخير، لأنها ستكون معركة تنازع البقاء المصيري، سواء بالنسبة للنظام أو لمعارضيه من «داعش» و «النصرة» والتوابع.
ثانياً، قياساً على بعض المفردات الأليفة في المنطقة، والتي تبرز بين الحين والآخر، تمكن تسمية ما يجري ولو مجازاً بأبجدية الحل المتداول (ك – ظ) كإشارة لاسمي وزيري الخارجية الأميركي جون كيري، والإيراني محمد جواد ظريف. وفي كل حال وبعيداً من سياسة المكابرة، فالمعطى الجديد سيعطي لإيران دوراً رئيسياً في تقرير سياسات المنطقة، ولو مع استبعاد «نظرية بعث الإمبراطوية» من جديد، والتي جرى رفع شعارها في الآونة الأخيرة من بعض المسؤولين في طهران.
وفي الكلام الأخير:
إن الواقفين في الصفوف الطويلة انتظاراً لما سينتج من مسألة الملف النووي الإيراني، يجب أن يدركو أن باستطاعة البعض أن يستبشر خيراً ببعض الحلحلة لأزمات ومواقف معينة، ولكن حذار من الإفراط في التفاؤل واعتبار أن ما سيصدر في 31 آذار الحالي، هو خاتمة الأحزان للقضايا والمواقف المتنازع عليها في المنطقة.
مطلوب القليل من التواضع كي تتلمس دول العالم الثالث والأخير موقعها الصحيح في سلم أولويات الكبار من الإقليميين والأوروبيين والأميركيين كي لا نصاب بمزيد من خيبات الأمل، إذ يكفي ما نحن فيه وعليه.
سورية: سنة خامسة حرب وقد تمتد أزماتها لخمس او لعشر سنوات آتية، وسط تفجر البراكين في المنطقة ومواجهة الحمم والشظايا الناشئة عن هذه البراكين، ومنها: فوز بنيامين نتانياهو، وما سيتبع من «العصر الإسرائيلي»!