مِنْ حق زعيم بمستوى وليد جنبلاط أن يُعلن القرف والإحباط من الوضع السياسي المتهالك منذ فترة، والذي أخذ البلاد والعباد إلى متاهات الإنقسامات العقيمة، والشغور المتمادي في رئاسة الجمهورية، فضلاً عن التعطيل المستمر للمؤسسات الدستورية الأخرى.
واقعية زعيم المختارة، جعلته يعترف علناً بعجز الطبقة السياسية عن مواجهة أبسط الإستحقاقات المحلية، فكيف لها أن تواجه العاصفة العاتية التي تجتاح المنطقة، والتي هزّت أنظمة وقيادات أكثر قوّة، وأكبر جبروتاً، وهدّدت استمرارها في سدة السلطة.
تجارب وليد بك في زمن الحرب، كما في سنوات السلم الهشّ، دفعته ليكون أكثر تواضعاً في أحلامه بالتغيير والتحديث، وتطوير النظام السياسي لإخراجه من شرنقة الطائفية الخانقة.
مواقف رئيس جبهة النضال الأخيرة تستحق الوقوف عندها، ودرسها مليّاً، خاصة في ظل حالة الضياع وانعدام الوزن، المُهيمنة على الوضع السياسي، والوصول إلى حائط مسدود في الإنتخابات الرئاسية، والتعثّر المستمر في أداء مجلس الوزراء، والتعطيل القسري المفروض على مجلس النواب.
* * *
لا بدّ من التسليم أولاً بعجز الأطراف السياسية اللبنانية عن التأثير في مجرى الأحداث الملتهبة في الإقليم، وخاصة في سوريا، التي دخلت الحرب فيها عامها الخامس، دون أن يظهر في الأفق بوادر لحل سياسي قريب، في وقت كان البعض يتوقّع بأن الثورة ستنتصر على النظام خلال الأشهر الأولى لاندلاعها، ومؤيّدو النظام يتصرّفون وكأن المعركة مضمونة النتائج لصالحهم، وستضع الحرب أوزارها خلال فترة وجيزة.
خُيِّل لكثيرين أن مشكلة العراق ستنتهي بذهاب المالكي الذي كان أبرز عوامل تفجير الحرب المذهبية في بلاد الرافدين، وكانت النتيجة أن ذهاب المالكي جاء متأخراً، بعد اجتياح «داعش» الموصل ومناطق واسعة من الأنبار، ووصولها إلى تخوم العاصمة بغداد.
كانت العملية السياسية في اليمن في ذروة تحركها، بعد نجاح الحوار الوطني في صياغة نظام سياسي جديد للبلاد، حظي بموافقة الأطراف السياسية اليمنية، باستثناء جماعة الحوثيين وحزب الرئيس السابق علي عبد الله صالح.
نفّذ الحوثيون إنقلابهم على الشرعية اليمنية، وناصرهم فريق علي صالح وأزلامه في الجيش اليمني، وأصبحت الرئاسة اليمنية وحكومتها في الإقامة الجبرية، قبل أن يتسنّى للرئيس هادي عبد ربه الإفلات من حرّاسه، والوصول إلى عرينه في عدن.
حروب الجاهلية الجديدة مشتعلة في ليبيا، بين القبائل والعشائر والمناطق، التي اخترقتها التنظيمات المتطرّفة، ولم تتمكّن الحكومة المُعترف بها دولياً، ولا جيشها الشرعي، من إخماد نيران المعارك التي تهدّد وحدة الأراضي الليبية، وثروات البلد النفطية.
ماذا تستطيع الأطراف السياسية اللبنانية أن تفعل أمام هذا المشهد السوريالي الجهنمي؟
* * *
يمكن القول أن الأحزاب والتيارات اللبنانية عادت إلى أرض الواقع، وتخلّت عن الأدوار الخارجية، باستثناء حزب الله طبعاً، الذي تحوّل إلى ضلع رئيسي في مثلث محوري، تقوده إيران في توسّعها الحالي داخل المنطقة العربية.
إزاء هذا الواقع المتواضع والمستجد، تبرز تساؤلات مشروعة، تُحيِّر علامات الإستفهام حولها الأكثرية الساحقة من اللبنانيين:
{{ لماذا لا يلتفت السياسيون اللبنانيون إلى الداخل، ويعملون على سدّ الثغرات في الجبهة الوطنية، لتعزيز مناعتها أمام الرياح الإرهابية التي تُشعل المنطقة؟
{{ ماذا يمنع القيادات اللبنانية المعنيّة من التوافق على حلّ مشكلة الكهرباء مثلاً، والعمل على توفير 2.2 مليار دولار يستهلكهم الهدر الحالي في إدارة الكهرباء؟
{{ هل تعميم تجربة محاربة الفساد في الغذاء، التي أطلقها الوزير وائل أبو فاعور، يتطلّب التوصل إلى «إتفاق نووي» بين واشنطن وطهران، مثلاً!!
{{ أين الجدّية في معالجة أزمة النفايات الصلبة، وإيجاد الحلول المناسبة لمشكلة المطامر، خاصة بعدما يحين موعد إقفال مطمر الناعمة؟
{{ لماذا هذا التأخير الخبيث في استثمار الثروة النفطية وآبار الغاز الطبيعي، حيث سبقتنا إسرائيل وقبرص في إطلاق ورش التنقيب، الأمر الذي يهدّد حصة لبنان المُتنازع اليها مع هذين الطرفين؟
تساؤلات، وغيرها كثير..، وكلّها تؤكّد مدى عجز الطبقة السياسية الحالية، وعدم قدرتها على التصدّي لملفات معيشية وحيوية، وبعيدة كل البُعد، عن الإعتبارات السياسية، وخلافاتها التقليدية.
* * *
المفارقة الغريبة التي تتحكّم بالوضع المُزري والمُهترئ في لبنان، أن العجز المُتزايد للطبقة السياسية، يقابله عجز مماثل من القواعد الشعبية، عن التحرك الغاضب والرافض لنظام المحاصصة والزوبنة الذي ينهب ثروات البلد وقدراته الاقتصادية والانمائية، ويزيد نسب الفقر والحرمان في صفوف الشعب اللبناني، الذي كان موضع تقدير الكثير من الدول والشعوب التي سبقتنا اليوم، تقدير للإزدهار الإقتصادي والبحبوحة التي كنا نعيشها حتى عشية اندلاع الحرب الملعونة عام 1975.
لا شكّ أن هذا الوضع المُزري سيستمر من سيّئ إلى أسوأ، طالما استمر هذا الاستسلام الشعبي والعاجز عن التحرّك لتغيير هذا الوقع الأسود،. الذي يتخبّط فيه البلد منذ سنوات، ورفع الصوت عالياً ضد تجّار السياسة!