ماذا تريد «مملكة آل سعود» من اليمن، إنّه سؤال يبدو للحظة الأولى بديهيّاً وعادياً وساذجاً، لكننّا لا نعتقد أنّ الأمر كذلك في جوهره، باعتبار أنّ «المملكة» تريد من اليمن ما أرادته من العراق، وما أرادته من سورية، وما أرادته من البحرين ومن لبنان، ومن فلسطين، ومن عُمان أيضاً، فلو أنّنا راجعنا مواقفها من كلّ هذه الدول لوجدنا أنّها تسعى دائماً إلى شيء جوهري وأساسي، إنّه «النفوذ»، و«النفوذ» هنا ليس بالمعنى البسيط له، كون أن هذه التجربة لـ «مملكة آل سعود» لا تأتي على النفوذ بمعناه العادي والمشروع في بعض الأحيان، أو المتبادل في أماكن أخرى، بمقدار ما هو نفوذ يصعد لمستوى السيطرة والاستتباع والهيمنة، من خلال استراتيجية تعامل خاصة لا ترتقي لمستوى السياسة القائمة على الاحترام وتبادل المصالح التي يمكنها أن تؤدي لنديّة حافظة لسيادة وكرامة الدول الأخرى.
علينا أن نعترف على أنّ هناك صراعاً كان شديداً بين قوى مختلفة في لبنان في مراحل تاريخية ماضية، ونعتقد أنّ آخر هذه القوى التي دخلت على خطّ الصراع والمواجهة هي «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، غير أنّ أحداً لا يستطيع أن ينكر أن «النفوذ» الأكبر لهذه الدول في لبنان الآن هو «النفوذ الإيراني»، في شكل مباشر أو غير مباشر، لكنّه «النفوذ» الذي لم يقم على شيء من الإملاءات أو الضغط أو السمسرة أو الاستثمار في مواقع لا أخلاقية ولا وطنيّة بالنسبة للبنان أو أحد مكوناته.
كذلك في العراق، فالدولة التي وقفت في وجه غزو العراق هي «إيران»، على رغم الماضي الأليم بينها وبين العراق في عهد «صدام حسين»، فالجيش العراقي الذي قتل يوماً أكثر من مليون إيراني لم تتعامل معه على أنّه الجيش القاتل أو الشعب القاتل، فقد تعاملت معه بطريقة فذّة وخلاقة، لجهة أنّه شعب شقيق وصديق له طموحات وتطلعات ومن حقّه أن يكون حاضراً وموجوداً وأن يبني دولته، فوقفت إلى جانبه ودعمته، في حين أنّ هناك قوى كانت تعمل على احتلاله وابتزازه ونهب خيراته، وهناك قوى أخرى كانت تعمل على كيفية الهيمنة عليه بفضل استعمال عناصر قوى الهيمنة القائمة على التخويف والترهيب وإبقائه مشرذماً ومنقسماً طائفياً ودينياً وعرقيّاً.
لقد كانت «إيران» وما زالت حتى اليوم الأقدر على إلحاق الهزيمة بالعراق تشرذماً وتقسيماً واستتباعاً، من خلال المعاني التي ذكرناها سابقاً، طائفياً ودينياً وعرقياً، غير أنّها لم تدفع بهذا الاتجاه، ولم تذهب إلى الاستثمار فيه، على رغم كونه عنواناً صاعداً يمكنها أن تدفع باتجاهه أو تشجع عليه، كي تستطيع أخيراً أن تستفيد من أكبر مكونات نتائجه، ونعني به على هذا المستوى «المكون الشيعي العراقي»، على العكس تماماً من ذلك نجد أن «إيران» عملت على أن تبقى مكونات العراق موحدة، ودفعت باتجاه أن تكون على مسافة واحدة من كل هذه المكونات، وهي التي لم تبذل دماً في العراق إلا لصالح المكون الذي تدافع عنه الآن وتقف في وجه «داعش» فيه.
في فلسطين لقد وفّرت «إيران» إمكانيات دفاع الشعب الفلسطيني عن ذاته، ودعمته بكل المعاني والمستويات، المادية والمعنوية، بعيداً عن لغة الإملاءات والسيطرة والاستتباع، حيث مارس الشعب الفلسطيني ثقافته في حقّ الدفاع عن حقوقه فلم يجد إلى جانبه داعماً أكثر من «إيران»، فهل أنتج هذا الموقف «الإيراني» نفوذاً له في فلسطين، نعم، كيف، بفضل أنّه أسقط مشاريع الآخرين الذين كان يمكن أن يستثمروا سلباً في حاجات وحقوق هذا الشعب، فلم يعد هناك دور لبعض الدول الأخرى، والتي كانت تسعى لذلك، من خلال الاستثمار في حقوقه ذاتها في مواجهة القوى المعنية بهذه الحقوق.
إذن هي حرب «النفوذ» أو منع «النفوذ»، بهذا المعنى منع محور المقاومة النفوذ لمحور تقوده الولايات المتحدة في كلّ من لبنان وفلسطين والعراق وأكثر من مكان آخر.
هنا نصل إلى حرب «النفوذ» أو منع «النفوذ» في اليمن، كون أنّ «مملكة آل سعود» تسعى وفي شكل دائم ومستمر للإبقاء على نفوذها في اليمن، في شكل من أشكال الاستتباع والسيطرة والإهانة والعمل المستمر على إضعافه وإلحاقه بها، بفضل الحاجة القائمة له، فهي لم تسع إلى جعله جزءاً من «منظومة الخليج»، على العكس تماماً فقد رعت ضدّه المؤامرات وخاضت في وجهه الحروب، بدلاً من أن تتبع شكلاً آخر من أشكال التواصل معه، والدعم والمؤازرة والإحاطة به.
نتيجة الحضور «الإيراني» الجديد في اليمن، ونتيجة العلاقات التي أنتجت أو أدت إلى خرائط سياسية جديدة، تتدخل «مملكة آل سعود» في شكل آخر أسس لهزيمة كبيرة لها فيه، فمجرد أن فكرت «المملكة» أن تفعل ما فعلته فهي قولاً واحداً خسرت معركتها الخامسة على مستوى الإقليم، وهي بذلك لن تستطيع أن تفرض خرائطها الاستراتيجية التي يمكن أن تؤدي إلى استقرار في المنطقة، على العكس تماماً، فهي وإن أدت إلى استقرار ما بعد عدوانها فإن المنطقة سوف تبقى محكومة باستقرار قلق وحاد.
إن عدوان «النفوذ» الذي تشنه «مملكة آل سعود» على اليمن لن يؤدي إلا إلى مزيد من «اللانفوذ»، ولن يكون اليمن في جيب «مملكة آل سعود»، خصوصاً في ظلّ قوى أخرى تتعامل معه تعامل الأنداد من خلال احترام شعبه ودمه ومصالحه وعلاقاته القائمة على أساس وطني صرف.
عدوان «النفوذ السعودي» في اليمن سيجعل اليمن في مكان آخر مختلف عمّا كان عليه سابقاً، كما أنّ مكونات أخرى في الخليج ذاته سوف تصبح بعد هذا العدوان في أمكنة أخرى مخالفة لما كانت عليه، «فعُمان» الخارجة على «الإجماع الخليجي» في عدوانه على اليمن لن تبقى كذلك، كما أنّ «قطر» الباحثة عن مزالق «لمملكة آل سعود» سوف تصطاد في ملحقات العدوان ذاته، مثلما أن «البحرين» المسنودة على «استقرار خليجي» قلق سيدفعها هذا القلق الجديد باتجاه مشاهد جديدة قد لا يتصورها كثيرون.