في الأيّام الأولى لرفع السلاح في «مخيم اليرموك» كانت تدرك الدولة السورية ما ينصب لها فيه من ألغام وأفخاخ، وكانت تدرك أنّه يراد منها أن تذهب بعيداً في ملاحقة المسلحين فيه، من أجل أن يتمّ استغلال هذا الفعل ويقدّم على أنّه عدوان سوري على مخيمات اللجوء الفلسطيني ضمن سورية، وذلك وصولاً إلى أهداف رئيسية:
أولها، أنه كان مطلوباً تفتيت هذه «الصيغة الفلسطينية» التي أنجزتها الدولة السورية، لجهة الإبقاء على «المكون الفلسطيني» في سورية مكوناً فلسطينياً خالصاً، يشكل عموداً رئيسيّاً في معادلة العودة وحقوق الشعب الفلسطيني، فعلى رغم أنّ الدولة السورية اعتبرت أنّ للفلسطينيين المتواجدين على الأراضي السورية حقوق السوريين كاملة، وهم مواطنون سوريون فلسطينيون، لهم ما للسوري وعليهم ما عليه، لكنها حافظت على أساسية مفادها أنّ فلسطينيي سورية مكون من مكونات الشعب الفلسطيني الذي ما زال يبحث عن حقوقه ويعمل على عودته، وهي معادلة نجحت بها القيادة السورية، علماً أنّه كان مطلوباً منها تفتيت هذه المعادلة كي لا تستعمل في الصراع المركّب مع كيان الاحتلال، حتى أنّها، أي هذه المعادلة في الوجود والحضور الفلسطيني في سورية، غدت مربكة ومانعة لأي فعل تصفية للقضية الفلسطينية، وتجاوزت إرباك العدو ذاته كي تصل إلى إرباك كثير من الأنظمة العربية في ظلّ «أوسلو» و«وادي عربة»، حتى أنّ بعض القيادات الفلسطينية أصبحت ترى في هذه المعادلة عامل تقييد حال دون تمرير اتفاق ما يمكنه أن ينهي الصراع مع كيان الاحتلال.
ثانيها، أنّه كان مطلوباً من الدولة أن تذهب بعيداً في مواجهة السلاح داخل المخيم، وتأخذ المواجهة شكلاً جديداً يتمثل في معارك مفتوحة بين مسلحي المخيم والقوات المسلحة السورية، ويتم تصدير وتسويق الموقف والمواجهة على أنّها محاولة سورية للتخلص من الفلسطينيين، ولم يكن يعني أطراف العدوان كثيراً أن يصدّروا لمذابح يمكن أن تأخذ صفات أخرى، ويمكنها أن تسوّق تحت معايير ومسميات سياسية معينة، يبدو فيها أنّ الدولة السورية تقتل الفلسطينيين، وبالتالي تتشكل أدوات ضغط جديدة على القيادة السورية، حيث يمكن لهذه العناوين أن تقدم في شكل إنساني وأخلاقي، وتصرف سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، دوليّاً وإقليمياً، مما يدفع باتجاه تثقيل الضغط الحاصل على القيادة السورية.
ثالثها، أنّه في ظلّ هذا المشهد الجديد للصراع والمواجهة يتم تسويق إخراج الفلسطينيين من المخيم، وباتجاهات عدة، ويكون هذا الخروج من دمشق تماماً كخروج الفلسطينيين من بيروت خلال مطلع الثمانينات، وهو الخروج الذي لم تعد الجغرافيا فيه تشكل عامل ضمان للحقوق، بمعنى أنّ مغادرة الجغرافيا، ونعني بها بيروت هنا، إلى جغرافيات أخرى أسقطت خصوصية الجغرافيا اللبنانية في حق العودة، حيث كانت هناك عواصم تعدّ العدّة لمثل هذا الخروج تحت عناوين إنسانية جديدة تتجاوز العنوان الأساسي للخروج الفلسطيني الأول، وبالتالي يضيع حق العودة الرئيسي، بانزياح «إنساني» هام ورئيسي يتم الاشتغال عليه في ظل مشهد صاعد جديد.
قلنا هذا الكلام منذ اللحظة الأولى للحاصل في مخيم «اليرموك»، ونبّهنا يومها أنّ المطلوب هو توريط الدولة السورية والقوات المسلحة تحديداً، وكتبنا في هذا العنوان، وخيراً فعلت القوات المسلحة السورية حيث أنّها لم تدخل المخيم ولم تذهب إلى الفخ المنصوب لها على هذا المستوى، فقد بقيت على أطراف المخيم مانعة أيّ تمدد لهذا الحريق باتجاه العاصمة السياسية، لكنّها في الآن ذاته كانت قادرة على جعل المخيم «قاعاً صفصفا»!.
موقف الدولة السورية وقيادتها حال دون أن تنتج هذه الأفخاخ، ولا أذيع سرّاً إذا قلت بأن قيادات فلسطينية من الداخل والخارج كانت قد دفعت بهذا الاتجاه، وكانت قد أعدت وشاركت في هذه الأفخاخ والألغام، وكانت تعدّ العدّة داخل المخيم من أجل الوصول إلى ما كان يحاك تحت ستر ليل طويل.
وقفت القوات المسلحة السورية على أبواب مخيم «اليرموك» وأدارت مواجهة من نوع آخر تماماً، فقد تركت للمسلحين المخيم لكنّها منعتهم ولأعوام أن يخرجوا خارجه، أو أن يمتدّ حريقهم إلى بعض شوارع دمشق، حتى بدا المشهد واضحاً، من خلال الصراع والمواجهة التي تمّ تظهيرها وفضحها وتقديمها للرأي العام والرأي الفلسطيني تحديداً، حيث تشكلت مجموعات تابعة لأذرع استخباراتية إقليمية ودولية، ولم تكن بعيدة عنها بعض الفصائل الفلسطينية التي ساهمت في خريطة السلاح والحريق الجديدتين، ظنّاً منها أنّ السيناريو سوف يمرّ على دماء السوريين والفلسطينيين!.
تورمت خريطة السلاح، وعاثت فساداً الاستخبارات القطرية ومالها الوسخ في استغلال حماس وقياداتها، حتى وصل هذا المال العفن إلى قيادات فلسطينية أخرى، ضحت بالفلسطينيين مقابل أن تمرّ الأهداف التي ذكرتها أعلاه، غير أنّ الاستخبارات السورية كانت على إطلاع كامل بالحاصل داخل المخيم، وكانت تضع بعض القيادات الفلسطينية الأخرى بصورة ما يعدّ تماماً.
لقد استطاعت القيادة السورية تجميد مشهد المخيم، ولم تسمح لسيناريو العدوان أن يمرّ منه، أو من خلاله، الأمر الذي دفع أطراف العدوان إلى إعادة إحياء السيناريو وبشكل آخر، وهو السيناريو الذي تدخل «داعش» من خلاله كي تقوم بما كان مرجوّاً للدولة السورية أن تقوم به، باعتبار أن تجميد مشهد المخيم لم يأت بالنتائج المطلوبة أو المأمولة، والتي توقفنا عندها أعلاه، فكان لا بدّ من سيناريو «داعش» الذي سوف ينهي مسألة المخيم من خلال استباحته، وبالتالي يتم «الخروج الفلسطيني» المطلوب والذي سوف يسقط الأسباب الرئيسية له في سورية، حيث تسقط من خلاله عناوين العودة والحقوق المشروعة.
أيضاً ومن جديد أدارت الدولة السورية معركتها بفرادة هائلة مع هذا السيناريو، حيث أبقت على العنوان الفلسطيني عنواناً رئيسيّاً في المشهد، وكانت جاهزة لجعل المخيم «قاعاً صفصفاً» من جديد، غير أنّها أرادت أن يكون العنوان الفلسطيني أشد حضوراً ووجوداً، وبدلاً من أن يهزم هذا العنوان في معادلة الدولة السورية وصمودها، دفعته كي يكون الرئيسي في مشهد الصمود والدفاع عن المخيم.
أجمعت الفصائل الفلسطينية على مواجهة «داعش»، وخرج عن الإجماع من كان جزء من سيناريو إحراق المخيم، إضافة إلى من كان يعمل على إسقاط الدولة السورية وتصفية القضية الفلسطينية!