كسر حزب الله «مزراب العين» مع السعودية، و«خلص وقت المزح». بعد العدوان على اليمن ليس كما قبله، والتابوهات التي طالما جرى احترامها كُسرت. التصعيد مستمر ما لم تكف السعودية عن العدوان «أياً تكن الكلفة»، مع اقتناع بأن «المرود» يمنياً «ايجابي»، أما لبنانياً فلا مصلحة لأحد بافتعال مشكل في ظل استمرار مظلة الحماية الدولية
عندما يصف حزب الله النظام السعودي بـ «التخلف والجهل والقتل وتصدير الإرهاب والمتطرفين والأفكار الشاذة»، عشية الاطلالة المقررة لأمينه العام السيد حسن نصرالله غداً تضامناً مع الشعب اليمني، فهذا مؤشر على أن كلمة نصرالله لن تكون أقل تصعيداً، وعلى أن الحزب ماض في التصعيد السياسي والإعلامي «أياً تكن الكلفة».
لم يسبق للحزب ان وصل في أدبياته السياسية الى هذا الحدّ من اللهجة العالية. وحتى في المرات القليلة السابقة، عندما أتى نصرالله في بعض خطاباته على ذكر المملكة، سرعان ما كان يصدر تعميم داخلي بأن الخطاب «يصلح لمرة واحدة فقط، ولا رغبة في تعميم الحملة على السعودية». لم يعتمد حزب الله في الملف اليمني «التدرج» الذي اعتمده، مثلاً، في الملف السوري، من حماية القرى اللبنانية على الحدود، الى الدفاع عن المقامات، وصولاً الى الحرب الاستباقية ضد التكفيريين.
هذه المرة، دخل مباشرة في صلب الموضوع، وكانت طبيعة المعركة واضحة لدى قيادته منذ اللحظة الاولى، لذلك لم يتردّد في تسمية العدوان باسمه ووصفه بـ «المغامرة»، وكرّس إعلامه في الملف اليمني كما لم يكرّسه في أي قضية أخرى، بما فيها الملف السوري. أطل السيد مرة واثنتين، وسيطل غداً ثالثة، وبين هذه الاطلالات أشكال مختلفة من الاحتجاجات والوقفات التضامنية، مع خطوات لاحقة ستتخذ على ضوء تطور الأوضاع، سواء على شكل مسيرات أو غيرها.
يدرك حزب الله أن شعبيته في العالم العربي لم تعد كما كانت قبل 2011 بسبب التجييش الطائفي والمذهبي الذي مارسته آلة الدعاية السعودية، في شكل أساسي، ضده. لكنه يدرك أيضاً، كما تدرك الرياض (وهذا ما يفسر سعارها الحالي)، أن لأمينه العام قدرة على إزعاجها وعلى إقامة توازن مع الامبراطورية الاعلامية الضخمة التي بنتها ــــ أو اشترتها ــــ في العالم العربي. ولأن هذه الامبراطورية عملت في السنوات الماضية، ولا تزال، على «أبلسة» الحزب وبث الفتن المذهبية والحملات الدعائية، كان لا بد هذه المرة من كسر «التابو» الذي كان يحول في السابق دون التعرض للعائلة السعودية الحاكمة، واحداث صدمة لدى الرأي العام اللبناني والعربي بأن حجم ما يحصل في اليمن كبير وخطير، وبالتالي لا يمكن أن يمر عدوان كهذا من دون تسمية الأمور بأسمائها. «خلص المزح»، ولم يعد ممكناً الاشارة الى السعودية بـ «الحرف الأول» من اسمها بعد الآن.
هذا في الشق الاعلامي. ولكن ماذا عن الشق السياسي؟
لا تبدو الأمور سوداوية بالقدر الذي تحاول أن تشيعه آلة الدعاية السعودية. ولا يبدو حزب الله، ومن خلفه كل محور المقاومة، منزعجاً جداً من دخول الرياض، بنفسها هذه المرة، إلى جحر الثعبان، وليس عبر وكلائها كما في العراق وسوريا وغيرهما. صحيح أنها تعيش حالياً «نشوة النصر»، خصوصاً بعد قرار مجلس الأمن الذي قد يغريها بالتورط أكثر فأكثر. إلا أن تورطاً كهذا سيقلل من قدرتها على إزعاج خصومها، كما تفعل في سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها. أكثر من ذلك، فإن لدى الحزب «يقيناً بهزيمة حتمية» تنتظر آل سعود على أرض اليمن، تشكّل فرصة تاريخية لاعادة رسم خريطة المنطقة، لأسباب عدة، منها أن الرياض لن تذهب الى حرب برية من دون تحالفات لا تبدو ممكنة، بعد التملص الباكستاني والتركي، والتردد المصري، والنأي بالنفس العُماني، وبداية الانفكاك الكويتي، والرغبة القطرية في إغراق السعودية في الرمال اليمنية. وبالتالي، لا أفق لحرب برية تخوضها السعودية والامارات والبحرين في ضوء تجارب الحروب الست السابقة مع الحوثيين. أما الحرب الجوية فنتائجها واضحة، بلحاظ التجربة الاسرائيلية في لبنان، والتجربة الأميركية ضد «داعش»، والتجربة السعودية نفسها ضد أنصار الله الذين تمكنوا تحت القصف الجوي من التقدم الميداني على الأرض.
هل يخاطر حزب الله، في تصعيده ضد السعودية، بالاستقرار في لبنان؟
يبدو الحزب واثقاً من أن الاستقرار اللبناني لا يزال حاجة دولية. خلافاً للأجواء التي رافقت اندلاع الأحداث في سوريا وكادت تشعل البلد يومها، يقتصر السجال الحالي حول اليمن، رغم حدّته، على المنابر الاعلامية من دون أن يحرك قيد أنملة، مثلاً، في قناعات المقاومة او تيار المستقبل في أهمية استمرار الحوار بينهما، بل ورفعه الى مصاف «الخيار الاستراتيجي»، خصوصاً من جانب التيار الأزرق. وبالتالي، قرار التهدئة ومنع انتقال الشرارة اليمنية الى لبنان لا يزال سارياً، اقليمياً ودولياً. أما محلياً، فلا مصلحة للمقاومة بإثارة أزمة داخلية، ومن المؤكد أيضاً أن لا مصلحة للرئيس سعد الحريري في إثارة أزمة كهذه، لأن في ذلك مزيداً من الصعوبات أمام حل سياسي من المقرر، حين يحلّ أوانه، أن يعيده الى السرايا الحكومية. وكذلك لأن الجهة الوحيدة التي يمكن أن يستخدمها تيار المستقبل لنقل الصراع اليمني الى لبنان هي السلفيون، وهؤلاء بات استخدامهم ممنوعاً بقرار أميركي، لا بل إن قرار مواجهتهم الذي أخذه المستقبل على عاتقه لا يزال مستمراً، وآخر تجلياته التوقيفات الأخيرة لارهابيين في الشمال والبقاع.