بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت العام 1982، شهدت الساحة الفلسطينية حالة من بدء التيه الفلسطيني في العديد من الدول العربية. ولكن في هذه المرحلة الراهنة تشهد الحالة الفلسطينية الأسوأ حيث التخبّط والارتباك، أمام أكثر من تحدّ، وخصوصاً في عناوين الشتات الفلسطيني. وإنْ كان الانقسام الحادّ يشكل أحد أخطر تجلياته، ولكنه ليس وحده المسؤول عن هذه الحالة، لأنه في الأساس هو منتج الفصائل، وحتى لا نعمّم، هو منتج البعض المُتنفذ في الساحة الفلسطينية الذي غلّب مصالحه على ما سواها من المصالح العليا للشعب الفلسطيني. وهذه الحالة من المؤسف أنها لن تفضي إلاّ إلى نتيجة جدّ مؤلمة وقاسية، وهي تلاشي ديمغرافيا الشتات الفلسطيني بشكل تدريجي في البلدان العربية، والمُعبّر عنها في مخيمات دول الطوق لفلسطين، أو بالتجمّعات التي ضمّتهم في الدول البعيدة نسبياً عنها.
ومن دون الإسهاب في سرد مصائب ما تعرّض له الشتات الفلسطيني. فعلى الرغم من الخطاب السياسي الفلسطيني، الذي يؤكد باستمرار على أهمية شتات اللاجئين ودورهم في عملية الكفاح الوطني الفلسطيني، نلاحظ أنّ هذا الخطاب لا يتوازى في ترجماته العملية في صون وحماية هذا الشتات من الضياع، إذا لم نقل شطبه من معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني، الذي يعمل جاهداً على هذا الأمر بكلّ ما أوتي من سبيل نحو تحقيق شطب قضية اللاجئين، التي كانت ولا تزال تشكل مصدر قلق له على الدوام. وتشهد كلّ المنعطفات والمراحل التي مرّ بها شتات اللاجئين على أنّ أداء القيادة الفلسطينية على مسمّياتها لم تكن على مستوى تحمّل مسؤولياتها اتجاه هذا الشتات الذي تعرّض ومنذ منتصف السبعينات إلى أخطر عملية شطب ممنهج. من الحرب في لبنان 1975، والتي شرّدت الآلاف ودُمّرت خلالها مخيمات وتجمّعات فلسطينية. إلى الكويت الذي تشرّد بسبب احتلال العراق لها عام 1990 وحرب الخليج الثانية 1991 حوالي 450 ألف فلسطيني، طردتهم الكويت على خلفية تأييد منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات للنظام العراقي. ومن العراق الذي هرب منه الفلسطينيون على خلفية عمليات الثأر التي شهدها العراق بعد سقوط نظام صدام عام 2003. إلى مخيم نهر البارد الذي دمّر عن بكرة أبيه عام 2007 بعد أن دخل إليه تنظيم «فتح الإسلام» واعتدى على الجيش اللبناني.
المشهد تكرّر في سورية منذ بداية الأحداث فيها على يد المجموعات المسلحة وعناوين مشغّليها من جهات إقليمية ودولية، ومؤكد «الإسرائيلية» ليست بعيدة عن ذلك. وعلى وقع هذه الأحداث التي أشعلتها هذه المجموعات التي أقحمت عن عمد العامل الفلسطيني ومخيماته من خلال الدخول إلى العديد منها في درعا ودمشق وريفها إلى حلب. وكان الأبرز بين كلّ هذه المخيمات، مخيم اليرموك الذي سقط بيد المسلحين أواخر العام 2012. خاصية مخيم اليرموك أنه يتمتع بأهمية استثنائية كونه على تماس مباشر مع العاصمة دمشق، وهذا ما عبّر عنه جورج صبرا رئيس ما سمّي بـ«الائتلاف السوري» آنذاك، حين صرّح «أن لا أحد يمنعنا من دخول مخيم اليرموك فهذه أرض سورية، وستكون المنطلق باتجاه عمق العاصمة دمشق». ومنذ ذاك التاريخ يتقاسم المخيم وأهله مشهدان، الأول تمثل في النكبة الجديدة، والمعاناة التي دفعت أعداداً كبيرةً منه ومن سائر مخيمات سورية إلى البحث عن ملجأ وملاذ أمن، حتى ولو كان في المنافي البعيدة التي لم يصلوا إليها إلاّ بعد أن دفع الكثيرون من حياة أعزاء لهم قضوا غرقاً في البحار البعيدة عن وطنهم فلسطين. والثاني تمثل في فشل الفصائل الفلسطينية ومنظمة التحرير والسلطة في صوغ رؤية موحدة من أجل مواجهة ما يتعرّض له الوجود الفلسطيني في سورية، الذي لا ينفصل عما يُحاك له من مؤامرة تدمير حق العودة، وشطب اللجوء الفلسطيني وشتاته وعناوينه المُعبّر عنها في المخيمات.
هذا الفشل الذي عكس نفسه مباشرة على إرادة الفلسطينيين في التمسك بمخيماتهم، بل على العكس هذا الفشل ساهم في إحباط الفلسطينيين ودفعهم إلى ترك مخيماتهم، وبالتالي دفعهم إلى اللجوء القريب والبعيد. هذا الفشل دفع أيضاً الفصائل للتعايش مع فكرة إيجاد الحلول البديلة والتي تمثلت في إنجاز اتفاقات بقيت في عالم الافتراض والأمنيات والأحلام بسبب رفض المجاميع المسلحة لهذه الاتفاقات على مدار السنتين والنصف الماضية. من دون أن تضع هذه الفصائل في حساباتها البدائل في حال رفضت المجموعات المسلحة لهذه الاتفاقات، وهي بالتأكيد وظفت الوقت لصالحها من خلال تثبيت تواجدها وقلب الأوضاع داخل المخيم لصالح مسمّيات مسلحة أكثر عدائية للقضية الفلسطينية، بل لقضايا العرب عموماً. وهذا ما استيقظ عليه من تبقى من أبناء المخيم المنكوب من فلسطينيين وسوريين صبيحة الأول من نيسان الجاري، عندما اجتاحت مجموعات كبيرة من تنظيم ما يسمّى «داعش» المخيم بتعاون لصيق من توأمها «جبهة النصرة»، في مواجهة دموية مع جماعة «أكناف بيت المقدس».
هذا التطور الدراماتيكي للأحداث في مخيم اليرموك قد حرك من جديد الفصائل والمنظمة والسلطة نحو البحث في هذا المستجدّ الخطير جداً، وضرورة توحيد الرؤية في التعامل معه ومواجهته بشتى الطرق والسبل بما فيها الحلّ العسكري. وقد أبدت رئاسة السلطة حماسةً لافتة في معالجة الأمر بالوسائل العسكرية بعد أن أسقطت المجموعات المسلحة سبل الحلّ السياسي والاتفاق على تحييد المخيم وإخلائه من السلاح والمسلحين. فأوفدت كما في المرات السابقة الدكتور أحمد المجدلاني الذي اتصل بقيادات فلسطينية موجودة في دمشق قبل وصوله وأبلغها أنه يحمل رسالة تفويض من الأخ أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية إلى القيادة السورية، وهي التعامل مع تطورات مخيم اليرموك المستجدة، وذلك وفق مقتضيات السيادة السورية على أراضيها، على اعتبار أنّ المخيم جزء من هذه السيادة». وعند وصول الدكتور المجدلاني أجرى العديد من اللقاءات مع القيادات السورية وأبلغهم الموقف الرسمي الفلسطيني. وهذا الموقف أبلغ للفصائل عندما اجتمعت في دمشق مساء الأربعاء 8 نيسان الجاري لهذه الغاية. واتفق على أنّ السبيل الوحيد لطرد «داعش والنصرة» من اليرموك هو العمل العسكري، وهذا ما أكد عليه في مؤتمره الصحافي في دمشق في اليوم التالي. والمؤسف أنه لم تمض 24 ساعة على ما اتفق عليه في دمشق، إلاّ وأقدمت رئاسة منظمة التحرير على التبرّؤ من الاتفاق، وأنها غير معنية بذلك، ولا توافق على عمل عسكري ضدّ «داعش والنصرة» وتحرير المخيم. هذا الموقف الذي خلق أجواء متوترة ومشحونة بسبب استمرار الشرخ الحاصل في الموقف الفلسطيني. والمعلومات تؤكد أنّ الضغوط التي مارستها الدول ذات النفوذ والثقل المادي العربي، والتي هدّدت بوقف الدعم المادي الذي كان في طريقه إلى السلطة إذا ما استمرّت في توفير الغطاء للدولة السورية، وهكذا كان في أن انقلب رئيس السلطة والمنظمة في آن وأجبرته على التراجع.
هذا المشهد المضاف إلى سلسلة المشاهد السابقة في التعاطي غير المسؤول مع أزمات اللجوء والشتات الفلسطيني يذكرنا بما عاناه أهلنا في مخيم البارد في العام 2007 عندما استباح تنظيم «فتح الإسلام» المخيم وحوّله إلى قاعدة انطلاقة للاعتداء على الجيش اللبناني. يومها عانت الفصائل في مجموعها من عقدة عدم القدرة على اتخاذ القرار في مواجهة «فتح الإسلام»، وانقسمت في ما بينها وترك 33 ألف من أبناء شعبنا في المخيم يواجهون وحدهم مصيرهم المحتوم، التدمير الكامل لمخيمهم وتشريدهم إلى خارجه. وهم الذين ما زالوا يعانون من تداعيات هذه الكارثة بكلّ صورها ومشاهدها. اليوم هناك من يرفض عملاً عسكرياً في اليرموك ويتبرّأ منه، كان من أشدّ المتحمّسين له، بل وفر الغطاء للدولة اللبنانية لتقوم بما عليها اتجاه اعتداءات «فتح الإسلام» على جيشها.
ما تغيّر بين اليوم والأمس هو أنّ المنقلبين على الاتفاق قد فقدوا المزيد من قدرتهم في التعبير عن إرادة سياسية فلسطينية اتجاه حماية شعبنا ومخيماته، وبالتالي المصالح والمحافظة عليها بما فيها مواقعهم وامتيازاتهم هي الدافع الحقيقي وراء هذه المواقف الملتبسة والمرتبكة والمتناقضة. وهذا ما برز في مواقف العديد من الإخوة في اللجنة المركزية لحركة فتح الذين أكدوا في تصريحاتهم ومواقفهم رفضهم لسلوك السلطة والمنظمة مع قضية اليرموك. فالأخ عباس زكي صرح بالقول «ليست حركة فتح هي التي تحمل سيفاً مثلوماً في مواجهة العدوان على مخيمات شعبها، وليست هي التي تعرّي لحم المشرّدين من أبنائها لسيوف الخونة والمتآمرين من عملاء الأطلسي وكتائب الأشباح التابعة للموساد والمخابرات الأميركية»، وعثمان أبو غربية الذي كتب «أما وقد وقع مخيم اليرموك في أتون الصراع، فلا بد من المواجهة كما وقع في عين العرب، ولا بد لكلّ سلاح فلسطيني أو مؤازر أن يواجه تحدّي التطرف البشع». وتوفيق الطيراوي الذي دعا في تصريح له «يجب العمل على وضع حدّ لمعاناة أبناء شعبنا في مخيم اليرموك وحمايتهم من التنظيمات الإرهابية كداعش والنصرة وغيرهما». داعياً المقاتلين الفلسطينيين في سورية ولبنان للتوجه إلى مخيم اليرموك للقضاء على هذه التنظيمات». وأمين مقبول الذي صرح بدوره «أنّ حركة فتح مع المبادرات السلمية لحلّ قضية مخيم اليرموك، واذا لم تنفع وتأتي بالنتيجة فإنّ الحركة مع الحلّ العسكري». وحتى رئيس المجلس الوطني الأخ سليم الزعنون، كان قد دعا بدوره إلى عقد جلسة طارئة للمجلس المركزي، وعقد اجتماع الإطار القيادي الموقت لبحث أوضاع مخيم اليرموك. مواقف هؤلاء الإخوة جاءت بمثابة مضبطة اتهام للرئيس أبو مازن في انقلابه على الاتفاق أو ما فوض به مبعوثه الدكتور المجدلاني إلى دمشق.
عدم تمكن الفصائل من توحيد موقفها، بعد تراجع رئيس السلطة عن الاتفاق، هو يختصر حالة العجز الذي وصلت إليه الحالة الفلسطينية. وبالتالي هذه المواقف من شأنها أن تشجع هذه المجموعات على مزيد من التمادي والإيغال في الدماء الفلسطينية في مخيم اليرموك وسواه، ومساهمة في تمكين أعدائنا من شطب قضية اللاجئين.
وعلى ضوء هذا المشهد المحزن، هل في مقدورنا طرح سؤال على وقع الضخّ الأمني والإعلامي حول مخيم عين الحلوة. ماذا ستكون عليه الحالة الفلسطينية الرسمية في حال وقوع مكروه لهذا المخيم لا سمح الله؟ وهنا وعلى ضوء التجارب المعاشة، لا أحد يستطيع أن يضمن شيئاً! عندها أين ستصبح ديموغرافية الشتات الفلسطيني؟