من بوابة قرار وزير التربية والتعليم العالي الياس بو صعب، القاضي باقفال المدارس في 24 الجاري بذكرى مرور 100 سنة على الإبادة الأرمنية، أطلت بعض الرؤوس الحامية في لبنان لتطرح خطاباً مذهبياً يناقض كل مقومات العيش الواحد، لا بل لتدعو إلى إعادة قراءة التاريخ القريب، أيام كانت فيها السلطنة العثمانية تحتل الكثير من البلدان العربية، ومنها لبنان، وتفرض نظام السخرة والتجنيد الإجباري على المواطنين، وتعلق المشانق في الساحات العامة لكل من تجرأ على رفع الصوت عالياً بوجه إرتكاباتها مطالباً بالحرية والإستقلال، بالإضافة إلى القتال بأبناء الشعوب في حروب عبثية لتوسيع رقعة أمبراطوريتها.
لم تكن الإعتراضات التي ظهرت بالمستوى المطلوب، كان من الممكن أن يخرج البعض ليقول أن طلاب المدارس اللبنانية يمضون عامهم الدراسي بين إضرابات وإعتصامات، وربما ليقترح أن من الأفضل تعريفهم على ما حصل من خلال تخصيص ساعات يشرح فيها الأساتذة معاني المجازر التي ارتكبت، أو ربما يعتبر أن ذلك يتطلب التضامن مع شعوب أخرى تعرضت لعمليات قتل جماعية، لكن أن يذهب المعترضون بالقول "انها حرب على الإسلام"، فهو أمر لا يمكن أن يتقبله عاقل بعد مرور كل هذه السنوات، خصوصاً أن الممارسات التي حصلت باسم الدين لم تستثنِ طائفة أو مذهبًا معيّنًا، واللبنانيون لم يكونوا بعيدين عنها.
اليوم، تكفي زيارة ساحة الشهداء في وسط بيروت للتأكيد على ممارسات السلطنة العثمانية، وربما على المعترضين أن يوضحوا الأسباب التي دفعت بعشرات الآلاف من الأرمن إلى الهجرة خارج بلادهم، بحثاً عن الأمن والإستقرار، طالما أنهم ينكرون حصول الإبادة أصلاً، كيف لا وبعضهم يقول صراحة أن شعوب المنطقة كانت تعيش تحت الحكم التركي بارادتها، ويذهب أبعد من ذلك من خلال الدعوة إلى إعادة العمل بنظام "الخلافة".
من حق اللبنانيين من أصول أرمنية، وهم يحتفلون بذكرى أجدادهم، أن يقولوا أن هناك من خذلهم من أشقائهم في المواطنة، ممن قرر اليوم أن يدعو في الوقت عينه إلى الإعتصامات والمظاهرات، دفاعاً عن تاريخ السلطنة التي يخجل بعض أبنائها به، من دون أن يتنبه إلى أن أنقرة لم تقدم إعتذاراً واحداً عما قامت به تجاه بلده وأجداده أيضاً، ربما عليه البحث أصلاً فيما لو كانت السلطنة في ممارستها تطبق الشريعة الإسلامية، بدل الإنطلاق في مواقفه من غريزة مذهبية جنونية تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية في المرحلة الراهنة، وساهمت إلى حد بعيد في بروز تنظيم "القاعدة" وأخواته من "داعش" وجبهة "النصرة".
ما يتم الحديث عنه من قبل هؤلاء، كان من المفترض أن يكون البحث فيه إنتهى منذ سنوات طويلة، خصوصاً أن ضمن سجلاتنا الثقافية المئات لا بل الآلاف من المحاضرات والدراسات والأفلام والمسلسلات، التي تُفَصِّل ما كان يحصل على مدى أربعة عقود من الزمن، لكن على ما يبدو هناك من هو مستعد لرفض كل الحقائق من أجل أهداف حزبية أو غرائزية فقط، مع وجود من يعمل على الترويج لهذه الحملة إنطلاقاً من ترابط فكري وعقائدي مع حزب "الحرية والعدالة" الحاكم في تركيا.
أنقرة لديها أسبابها كي لا تعترف بأعمال السلطنة العثمانية الإجرامية، أولها أخلاقية كون ذلك سيدينها بلسانها، وثانيها مالية تعود إلى الأعباء التي ستترتّب عليها جرّاء التعويضات التي يجب أن تدفعها إلى ذوي الضحايا، وثالثها إعادة الأراضي التي سلختها عن الجمهورية الأرمنية، لكن ما هي أسباب الرؤوس اللبنانية الحامية؟
إستنكار ما قامت به السلطنة العثمانية في السابق ليس تضامناً مع الشعب الأرمني، ولا حتى مع الإنسانية أو مع مواطنين لبنانيين كان أجدادهم ضحايا لمجازر وحشيّة، هو تضامن مع الذات في ظل تكرار المشاهد في منطقة الشرق الأوسط على أيدي جماعات تقتل وتذبح باسم الدين، على أمل أن لا يخرج بعد سنوات من يعترض على إستنكار أفعال "داعش" و"النصرة"، وليصف ذلك بـ"الحرب على الإسلام".