في منتصف شباط الماضي، كان رئيس شعبة الامن السياسي في الجيش السوري اللواء رستم غزالي يتابع من مكتبه في دمشق ما يُقال عنه في المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. كان شديد التوتر. لم يكن غضبه محصوراً في من كانوا «يقصدونني من بيروت إلى حلب إلى درعا» ليمدحوا سوريا ونظامها، بقدر ما أغضبه صحافيون وأصحاب مؤسسات إعلامية لطالما «بكوا في مكتبي» ووجهوا التهديدات (عن بُعد) لرفيق الحريري، قائلين لغزالي: «إما ان يدفع او سنهشّم صورته».
بدا غزالي «مسكوناً» بلبنان. لا يبدأ حديثاً إلا يكون لبنان في اوله، ولبنان في آخره. يتحدّث بغضب عن سياسيين يراهم «بلا وفاء»، و»رجال دولة» كانوا يقفون ببابه، وآخرين ممن عرضوا عليه مالاً وأسهماً و»أعراضاً»، وغيرهم ممن أرسلوا إليه زوجاتهم ليقولوا له «إيدنا بزنارك». لم يدّع تعففاً. لم يكن ينفي حصوله على مبالغ مالية من سياسيين، ولا تورّطه بقضية بنك المدينة الشهيرة، ولا ما تعدّى ذلك إلى ما لا يُقال. بلا سؤال يحكي عن علاقته برنا قليلات. وبلا اتهام يسمّي سياسياً لبنانياً كان «يهديه» بمناسبة كل عيد 300 ألف دولار، سواء أكان هذا العيد للمسلمين أو للمسيحيين. 300 ألف دولار «عيدية» غير تلك التي أقر في شباط الماضي بأن الحريري كان يدفعها له شهرياً، ليرشي بها معارضي رئيس الحكومة الراحل. قال ذلك رداً على إفادة مساعد الحريري، عبد اللطيف الشماع، امام المحكمة الدولية، حيث قال إن غزالي كان يتلقى نحو 50 ألف دولار من الحريري شهرياً.
يقرّ بـ300 ألف دولار شهرياً، قبل ان يقف ليقسم على المصحف بأنه رفض رشوة من الحريري بلغت نحو 100 مليون دولار عام 2004 ، لقاء إقناع الرئيس بشار الأسد بعدم تمديد ولاية الرئيس إميل لحود.
يحكي كل ذلك عام 2015، وهو الخارج من لبنان قبل 10 سنوات كاملة. كلمة «مسكون» لا تكفي لوصف حالة غزالي تجاه لبنان بدقة. شيء من الهوس يعبّر بصورة أفضل. كان رستم غزالي يتحدّث كما لو ان لبنان هو «نصف الدنيا». يذكر من أرسل له شجراً لحديقة منزله، ومن «تبرّع» بتصميم قصره في بلدة قرفا في ريف درعا، ومن بعث له بالسجاد... ومَن ومَن... القصر هو نفسه الذي أمر بتفجيره قبل نهاية العام الماضي. يبرّر ذلك بأنه كان، من ناحية، يخشى وصول المسلحين إليه، ولم يرد «ان يدسّوا فيه شيئاً ثم يأتوا بمحطات التلفزة العالمية ليصوّروا». ومن ناحية اخرى، يضيف، «كنت أريد ان أقول للمقاتلين انتم تدافعون عن أرضكم لا عن قصر رستم غزالي». وفي كل ما يحكيه، كان التوتر سيد كلامه. وتوتر غزالي مصدره الأول لبنان. أو هذا على الأقل ما كان يعبّر عنه. ارتفع منسوب غيظه من كل شيء حوله. وصل إلى حد التصادم قبل أقل من شهرين مع رئيس شعبة الاستخبارات السورية اللواء رفيق شحادة. والأخير، مالت لمصلحته بقوة كفة الموازين الدقيقة بين الأجهزة الامنية، فتمكّن من إطاحة رجل الأمن النافذ حافظ مخلوف (ابن خالة الرئيس السوري، وشقيق رجل الأعمال رامي مخلوف). وتطوّر التصادم بين شحادة وغزالي، فاعتدى رجال الاول على الثاني. لم تتضح بعد أسباب الخلاف الذي وصل إلى حد ضرب رئيس جهاز امني.
قيل إنه بسبب مخالفات في طرطوس دفع الرجلان ثمنها، لكن الأقرب إلى الواقع كان «تداخل نفوذ» بعدما أوقفت الاستخبارت العسكرية مجموعة عسكريين تابعين لغزالي، بينهم أقارب مباشرون له. أقيل الرجلان. لم يحتمل غزالي تبعات ما وقع عليه. قبلها، كانت مشكلاته العائلية قد تفاقمت، وباتت الشائعات تتزايد مؤكدة أن الرئيس السوري لن يمدّد له في موقعه بعد أيار المقبل. تقول الرواية «شبه الرسمية» إن «أبو عبده» أصيب بجلطة دماغية، وبنزف، لم يَقدر أطباء استُقدِموا من بيروت إلى دمشق على معالجته منهما، ففارق الحياة أمس.
بعد اغتيال الحريري في 14 شباط 2005 ، اخترع الفريق السياسي الذي بات يُعرف لاحقاً باسم «14 آذار» سردية ليبني عليها انقلابه السياسي. تلك السردية ارتكزت على عنصر واحد: سوريا هي المصدر الحصري للشرور. وكل تلك الشرور جُمعت في رجل اسمه رستم غزالي.
أوصلت تلك السردية جمهور المطالبين بالانسحاب السوري إلى حد التصديق بأن غزالي، تولى، شخصياً، كسر كتف الرئيس الحريري قبل أشهر على الاغتيال. الكثير مما قيل عنه صحيح، لكن بالتأكيد ليس منها رواية كسر الكتف التي تسيء إلى الحريري أكثر مما تسيء إلى غزالي.
حَكَم الرجل لبنان بين عامي 2002 و2005، وهو الذي قضى معظم خدمته العسكرية في بلاد الأرز، منذ أن اتى إليها في ثمانينات القرن الماضي. بعض من هاجموه بعد شباط 2015 كانوا شركاءه وشركاء سلفه غازي كنعان في الحكم وفساده: في الإدارة والقضاء والامن والسياسة والنيابة، وفي الاقتصاد والمال والأعمال. من سوليدير إلى الخلوي وما بينهما. فبخلاف سردية 14 آذار، حكم لبنان نظامان أمنيان، بين عامي 1990 و2005، كل منهما «لبناني ــ سوري مشترك»، بحسب رؤية الراحل جوزف سماحة. وهذان النظامان تصارعا حيناً، وتوافقا أحياناً.
أحد أركان النظامين يرى في غزالي امتداداً لحكم غازي كنعان، رجل سوريا القوي في عنجر منذ عام 1990 إلى عام 2002. غزالي لم يكن مؤسس مرحلة. أما كنعان، فهو «قيصر» ما بعد اتفاق الطائف وباني توازنات «الجمهورية الثانية». الفارق بين الرجلين أن كنعان كان أقدر من خلفه على استيعاب العلاقات السياسية اللبنانية. وكان غزالي ناجحاً في أداء دور الرجل الرقم 2، من فندق بوريفاج في بيروت. وأبرز مثال على ذلك، نجاحه بتنفيذ تعليمات كنعان بدقة، لبناء الجسور مع رفيق الحريري، ومع خصوم الأخير، لكنه عندما تحوّل إلى الرقم 1، ظهر الفارق بينه وبين رئيسه السابق . كان سياسيو لبنان «يبيعون» كنعان «مواقف قومية»، ويحصّلون لقاءها مكاسب سياسية ومالية وشعبية. فعلوا ذلك عندما كان الوجود السوري في لبنان يحظى برضى إقليمي ودولي. انتقال كنعان من عنجر إلى وزارة الداخلية في دمشق ترافق مع تغيّر في المشهد الإقليمي والدولي أدى إلى انقلاب بعض شركاء الحكم اللبنانيين على الوجود السوري ممثلاً بغزالي. وسوء إدارة الأخير للعلاقات بين شركاء الحكم، أدّى إلى الإخلال أكثر بالتوازنات بين الضفتين: الحكم في سوريا والشركاء اللبنانيين الذين انقلب بعضهم عليه قبل اغتيال الحريري وبعده.
بعد اغتيال رفيق الحريري، وجّه فريق 14 آذار الاتهام لغزالي، لكن التحقيق الدولي بعد ديتليف ميليس لم يتمكّن من إثبات ذلك. بقي الاتهام «سياسياً»، إلا أن رستم غزالي بقي في أذهان الكثير من اللبنانيين العنوان السيئ للوجود السوري في لبنان. ولم تمّح تلك الصورة عنه وهو رئيس لفرع الامن العسكري في دمشق وريفها بعد عام 2005، ولا بعد انتدابه لتنسيق الصلة بين الرئيس بشار الأسد والرئيس سعد الحريري عام 2009، يوم عاد جاذباً لعدد من سياسيي الحريرية وأمنييها، ولا بعد تعيينه رئيساً لشعبة الأمن السياسي عام 2012.
مات رستم غزالي امس، ومعه الكثير مما لم يكتبه ولم يسجّله. ربما لن يكون بمقدور أحد أن يعرف كامل حقيقة ما قام به وما شهد عليه وما جرى له. ربما لم يعد ذلك مهماً. سوريا ولبنان في زمن آخر اليوم.